يحدثنا التاريخ عن المدن التي ازدهرت عبر التجارة، ثم ما لبث أن طمع بها الطامعون، فحولوها إلى آثار قديمة ما تزال تثير الشجن والأشواق إلى زمن غابر قضى.
هل تشبه "دبي" تدمر، والبتراء، وقرطاج، أم أن لهذه المدينة الساحرة أضواءها التي لا تخبو وَقُوّتها الكامنة التي تنتظر انطلاقة جديدة من القمقم الذي حُشر جِنيُّها فيه.
لما كنت صغيراً أدمنت على قراءة كل القصص التي وفرتها مكتبة والدي رحمه الله، أحمد العناني، وكل ما كانت تصله يداي في مكتبة الكلية العلمية الاسلامية، حيث أنهيتُ الابتدائية والثانوية. وما تزال قصة "مدينة النحاس" إحدى قصص "ألف ليلة وليلة" بصياغة الأديب المصري الراحل كامل الكيلاني تَسكُن في مخيلتي.
يصل الأمير ايهاب الى مدينة عجيبة. ولما اعتلى أسوارها وجد مدينة لامعة من نحاس. ورأى تحت السور حوريات حسان كواعب يشرن إليه كي يقفز إليهن. ولكنه لم يفعل كما فعل سابقوه، فقد أدرك أن الغواني لم يكن سوى خيالات وحيل تحاول اللعب بعقله. فهبط السور ووصل سالما. ورأى المدينة العجيبة واقفة ساكنة كأنها تهم بالحركة. فهذا شاب يشرب من جرة وماؤها متجمد بين فوهة الجرة وفمه، وتلك فتاة تشير غاضبة بسبابتها الى رجل بدا وكأنه تحرش بها. كل المدينة واقفة في لحظة معينة تنتظر الزمان أن يتحرك بها لتكمل ما جُمّدَتْ حركتها عنده.
ويكتشف ايهاب أن ساحرا كبيرا قد نقم على المدينة فوضع عليها تعويذة ملعونة جَمَّدتها، وأحالت كل ما فيها الى نُحاس، وأن المدينة بحاجة إلى صاحب قلب شجاع ليقلب السحر على الساحر، ويعيد الديناميكية الى تلك المدينة.
قد تكون "دبي" مدينة النحاس الآن، وكأن ساحراً ملعونا قد سلط سحره المجنون عليها. ولكن المدينة لا ينقصها البناء التحتي، ولا الفوقي، ولا القلوب الشجاعة القادرة على إزالة السحر.
منذ أن انفجرت أزمة المديونية في دبي منذ ثمانية أشهر ونيف، والصحف الأجنبية لا تخفي مشاعرها السلبية تجاه اقتصاد دبي، وما أسمته كارثة، أو انهيارا، أو ضياعا لحلم على الرمال، وغيرها من الألفاظ والتعابير المسمومة. وفي الوقت نفسه، فقد استمر القائمون على الأمور في "دبي" يَسعون بكل طاقتهم لتحريك الاقتصاد.
وهنالك من يراهن على أن دبي التي كانت أكبر المتضررين من نكسة الاقتصاد الدولي، ستكون أكبر المستفيدين عند عودته، وأن دبي لا بد وأن تُعيد مستوى الأسعار والتكاليف فيها الى مستويات معقولة تغري الناس بالعودة إليها.
لا شك أن ما حصل في دُبي أَثَّر سلبا على اقتصاد بعض الامارات الشمالية في دولة الإمارات، ولكنه عزز مكانة اقتصاد أبو ظبي والذي بدأ يشهد طفرة عمران وأعمال استوعبت الطاقات البشرية الممتازة التي فاضت في دبي. وسوف تزدهر المدينتان معا، وتسند إحداهما الأخرى.
ولكن ما هي إلا سنة على الأكثر، حتى تبدأ دبي في استعادة ألقها، ولكنها لن تعود كمدينة النحاس ليكمل أهلها ما توقفوا عنده ساعة الأزمة، ولكن ليجدوا لأنفسهم أعمالا وأفكارا أخرى.
إن استراحت المنطقة بحل في العمران، وبتفاهم مع ايران، وارتفاع محتمل في أسعار النفط، فإن دبي ستعود الى ما كانت عليه من ألق، ولكن بوجه جديد، وقسمات مستجدة.
لا بد من عودة دُبي، لأنها كانت موزة في عقد الجُمان العربي.
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
جريدة الغد صحافة جواد العناني