كتبتُ عن تسييس العسكر، وما انتهى إليه من عسكرة للسياسة. كان ذلك حول إخفاق الحياة السياسية في خمسينيات القرن الماضي في الشقيقة سورية، وتجربة حزب البعث بالتحديد. فبعد أن فقدت التجربة السياسية بوصلتها، جنحت إلى تسييس العسكر، طمعاً في الحصول على السلطة واحتكارها؛ فكان أن تعسكرت السياسة كنتيجة طبيعية لتسييس العسكر. وخلصت التجربة إلى نتيجة مفجعة من الدكتاتورية وتغييب إرادة الشعب، وحكم الطائفة، والفساد. ما أدى بدوره إلى ثورة الشعب السوري المجيدة التي تشتعل اليوم، وتعاني ما تعانيه من جرائم السلطة الحاكمة ومجازرها.
وبالأمس القريب، كتب الصديق الكاتب إبراهيم غرايبة عن تسييس الدين، وما بدا برأيه أنه تديين للسياسة في التجربة الأردنية، يمثله حزب الوسط الإسلامي. ورأى أن تديين السياسة قد يكون أجدى من تسييس الدين في حيازة ثقة الناس والموافقة على تمثيلهم. لكن ما ظل ملتبساً هو مفهوم تديين السياسة.
فتسييس الدين، بحسب الإخوان المسلمين، يهدف إلى إدارة الدولة على أساس قواعد الشريعة دون الوصول إلى الدولة الدينية، مع أنهم يرفعون لذلك شعار "الإسلام هو الحل". أما تديين السياسة فهو مفهوم جديد، لم يطرح بعد بشكل مباشر من قبل حزب الوسط الإسلامي. وكل ما بدا من قبل أعضاء هذا الحزب، حتى الآن، في محاولاتهم لبلورة مدخل لهم إلى عالم السياسة، هو أنهم يريدون للسياسيين أن يكونوا متدينين، لأن ذلك يجعل منهم سياسيين صالحين، يتقون الله في قولهم وعملهم، فتصلح بهم ومعهم أحوال البلاد والعباد، ويكون أداؤهم أقرب إلى الاستقامة وأبعد عن الزلل.
وليست الحال في تسييس الدين وتديين السياسة كما هي الحال في تسييس العسكر وعسكرة السياسة. فتسييس الدين أكثر تعقيداً من تسييس العسكر، لأنه تسييس لعقيدة وليس لفئة من المجتمع (العسكر). وتديين السياسة كذلك أكثر تعقيداً من عسكرة السياسة، لأنه إضفاء للعقيدة على العمل السياسي، وليس مجرد وضع للإدارة السياسية بيد طبقة العسكر. في تسييس العسكر وعسكرة السياسة، أمامنا تطبيق عملي من التجربة السورية. إذ كان تسييس العسكر سهلاً، كما أن الوصول إلى عسكرة السياسة كان سريعاً بمثل ما كان تسييس العسكر سهلاً. أما النهاية كما شهدها أكثر من قطر عربي حتى الآن، فمأساوية بامتياز، وبكل المقاييس.
إذا ما كان ثمة نية لانتهاج أحد أحزاب التيار الإسلامي في الأردن لتديين السياسة فعلاً، وعلى أي نحو كان كبديل لتسييس الدين، وإذا ما كان ثمة فرق حقيقي بين تسييس الدين وتديين السياسة، فإن الأمر ينطوي على أهمية تستدعي ضرورة إفصاح الحزب عن تفاصيل رؤيته في العمل السياسي، وأهدافه التي يسعى إلى تحقيقها، وبرنامجه السياسي والاقتصادي للوصول إلى تلك الأهداف. كما أن عليه الإعلان بوضوح عن موقفه الرافض لتسييس الدين، حتى لا يبدو أن الأمر لا يعدو كونه انشقاقاً عن حركة الإخوان المسلمين وحزبها جبهة العمل الإسلامي؛ فكل ما يلوح حتى الآن لا يشي بغير خلاف مع الحركة والحزب ليس إلا.
على أن تعدد أحزاب تيار الإسلام السياسي على نحو ما نراه في دول أخرى، وعلى نحو ما يبدو أننا مقبلون عليه في الأردن، يعيد من جديد طرح السؤال الأهم حول شرعية ودستورية تسمية الأحزاب بمسميات دينية؛ لأن الدين بمضامينه وعناوينه ومسمياته يخص كافة فئات وأحزاب المجتمع، وحصر أي فئة سياسية لهذه المضامين والعناوين والمسميات بها، ليس موضوعاً غير قابل للنقاش. فاستخدام الدين لاستقطاب التعاطف والأعضاء والمناصرين وأصوات الناخبين على خلفية دينية، من قبل أحزاب بعينها، من شأنه بلا شك أن يُخل بشروط عدالة ونزاهة الانتخابات
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة د. عاكف الزعبي جريدة الغد