عندما وضع مالتوس في العام 1798 نظريته الاقتصادية عن السكان والموارد وتنبأ بمستقبل مظلم للغذاء، كان غير واثق فيما يمكن أن يبتدعه العلم في مجال زيادة إنتاج الغذاء. فشكك في قدرته على جسر الفجوة بين عدد السكان الذي يتزايد بصورة متوالية هندسية، وإنتاج الغذاء الذي يتزايد بصورة متوالية حسابية. ورأى في ذلك ما ينذر بكوارث غذائية ومجاعات لا فكاك منها إلا بالحروب وإزهاق الأرواح لتقليص الطلب على الغذاء.
من خالف مالتوس من أقرانه من المفكرين الاقتصاديين، اعتمدوا في تفنيدهم لنظريته على الإيمان الطموح بقدرة العلم على تطوير إنتاج الغذاء، أفقياً ورأسياً، بما يكفي للتغلب على زيادة الطلب على الغذاء الناجم عن تزايد عدد السكان. فقد كانت ثقتهم كاملة بقدرة العلم وتطبيقاته على توسيع المساحات المزروعة، وتعظيم كفاءة وحدة الإنتاج، باستخدام المكننة، والمخصبات، ومكافحة الأمراض والآفات، وتطوير قدرات تكييف البيئات الزراعية، والسيطرة المتنامية على مخاطر الطبيعة.
أخفق مالتوس في تقديره للإمكانات الهائلة للتقدم العلمي والتكنولوجي في زيادة إنتاج الغذاء، والآفاق التي يمكن أن يبلغها في الاستجابة للطلب المتزايد عليه. ونجح معارضوه في رهانهم على العلم والتكنولوجيا للإطاحة بنظريته. لكن المجاعات والكوارث الغذائية ما تزال تهدد سكان العالم. فقد غاب عن معارضيه مثلما غاب عنه أن إنتاج الغذاء الكافي شيء وتوفيره بمعنى إتاحته للمستهلكين في الأسواق شيء آخر، لأنه يتطلب إرادة أخلاقية وإدارة سياسية تكافلية تنأيان عن استخدام الغذاء سلاحاً لخدمة مصالحهما.
حتى الهندسة الوراثية، آخر صرعات التكنولوجيا وتجلياتها في تعظيم إنتاج الغذاء فيما بات يعرف بالأغذية المعدلة وراثياً، سوف تضاعف إنتاجية الغذاء وإنتاجه، لكنها في ظل سيطرة الغرب المتقدم على التكنولوجيا، وهيمنة النخب الحاكمة فيه على السياسة الدولية، سوف تبقى عاجزة عن إتاحة الغذاء لشعوب الدول النامية والفقيرة رغم توافره. فذاكرة العالم لم تنس بعد آلاف الأطنان من السلع الغذائية الأساسية، وفي مقدمتها الحبوب، التي كانت تلقى في المحيطات للتخلص من فائض العرض والمحافظة على المستويات السعرية كما تريدها قوى الاحتكار والسياسات الدولية المتوحشة.
سقوط التكنولوجيا في قبضة السياسة الغاشمة كفيل بتجريد مساهماتها في زيادة إنتاج الغذاء من أي قيمة حقيقية لاستفادة شعوب العالم منها. فالغذاء الذي تباركه التكنولوجيا بمنجزاتها تلعنه السياسة باستخدامها له أداة لخدمة مصالحها حين تقدمه مكافأة لمن أطاع، وتحجبه عقوبة لمن عصى، ما جعل أزمة الغذاء في العالم تأخذ أبعاداً جديدة. فبعد أن كانت مشكلة دول العالم الثالث أنها لا تجد ثمن ما تحتاجه من الغذاء أحياناً، صارت في أحيان أخرى لا تجد من يبيعها الغذاء الذي تمتلك ثمناً له.
الثورة الخضراء الأولى اختطفتها التبعية للسياسات الرأسمالية. لم تستفد من نتائجها سوى دول محدودة تمتلك قرارها السيادي، مثل الهند والبرازيل وتركيا. وأكثرها استفادة كانت الهند التي اكتفت من الحليب ومن القمح الذي باتت مصدراً رئيسياً له. الثورة الخضراء الثانية، ممثلة بالأغذية المعدلة وراثياً والتي سوف تمضي في طريقها رغم خلافيتها أخلاقياً وبيئياً، قد لا تتمكن هي الأخرى من الإفلات من قبضة السياسة الدولية، حتى في ظل زوال الأحادية القطبية الدولية وبروز أقطاب أخرى. فما تزال الرؤية التكافلية غير حاضرة في طروحات الدول المرشحة للصعود كأقطاب دولية جديدة. فلا أوروبا الموحدة باتت قريبة من هذه الرؤية، ولا حتى الصين وريثة المبادئ الشيوعية والاشتراكية؛ فكل منهما تنافس حتى الآن من أجل مصالحها الخاصة على حساب انخراطها في صناعة نظام دولي أكثر عدلاً وتكافلاً.
 

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  د. عاكف الزعبي   جريدة الغد