منذ أن صحا العرب المسيحيون نسبياً من آثار قلقهم أواخر العهد العثماني الذي شهد تفكك الدولة وانحلالها، لم تبلغ صحوتهم حتى اليوم درجة الطمأنينة لأسباب عديدة يفيد أن نأتي على أهمها، ليس للاجتهاد في تحديدها أو التذكير بها وحسب، ولكن لكي تكون دافعاً قوياً لفتح ملف لا يجوز أن يبقى مغلقاً بعد الذي نراه اليوم من أحداث طائفية مؤسفة، وإن تكن محدودة في أرض الكنانة، بموازاة أحداث مماثلة ما تزال مستمرة في العراق منذ احتلاله قبل ثماني سنوات، بالإضافة إلى القلق الذي بدأ يرشح من المسيحيين في سورية على هامش المشهد السياسي المضطرب فيها.
طوال عقود، استمرت الدول العربية في إخفاء العديد من الحقائق الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. أخفت نسبياً وبدرجات متفاوتة الفقر والبطالة والجوع وقللت من نسبها الحقيقية، وأنكرت وجود الفساد السياسي والإداري والمالي، وبالكاد اعترفت به متأخرة لتشرع بتبريره بدواعي كونه ظاهرة دولية. كما تنكرت لحقوق المرأة كإنسانة ثم كمواطنة لها ما للرجل وعليها ما عليه. وبالمسطرة ذاتها عالجت موضوع الأقليات لترتكب خطأ جسيماً في مفهومها له وصل حد الخطيئة، عندما نظرت للعرب المسيحيين كأقلية أيضاً استناداً لمعيار العدد، متجاهلة معايير أكثر أهمية، مثل أصالة الوجود وجذور المشاركة التاريخية والأولوية القومية، وقدسية المواطنة.
قد يكون ملف العرب المسيحيين في الدول العربية ملفاً حساساً، وقد يكون زاد من حساسيته التأخر في فتحه، لكنهما بالذات، حساسيته والتأخر في فتحه، هما المبرران الأهم للإسراع بفتحه اليوم قبل غد. فعبارات المجاملات وشعارات التكريم لم تعد تحمل أي قيمة أمام ما قد نواجهه مع استمرار تجاهل فتح الملف، وفي ظل انتظار من الواضح أنه سوف يطول لولادة الدولة العربية الديمقراطية.
ثلاثة عوامل تقلق العرب المسيحيين في ظل مجتمعات عربية غير ديمقراطية، غالبيتها العددية غير مسيحية ولم تستقر لديها ثقافة التسامح بعد. فهم، أولا، يخشون الأصولية الإسلامية وتطرف بعض الحركات السلفية وأفكارها حول دينية وإسلامية الدولة بالمفهوم الشمولي. وهم، ثانياً، قلقون من النظر إليهم كأقلية استناداً للمعيار العددي، في تجاهل واضح لأصالة وعمق الجذور والانتماء القومي التاريخي. وهم، ثالثاً، قلقون من ضعف الأمل ببناء دولة المواطنة العربية ذات النظام السياسي الديمقراطي والثقافة الوطنية المتسامحة التي لا مجال فيها للتصنيف الديني أو أي أثر للتمييز بين المواطنين لأي أسباب مهما كانت.
أكبر مظاهر القلق لدى أشقائنا المسيحيين تعكسه هجرتهم التي وجدت لها أسباباً في أواخر العهد العثماني واستمرت بذات الوتيرة، بخاصة من البلاد السورية مع الهجمة الصهيونية على فلسطين. وما إن كادت تستقر مع استقلال الدول العربية وشروعها في بناء نماذجها الاستقلالية، حتى أحياها مجدداً غياب الديمقراطية وفقر ثقافة التسامح في تلك النماذج التي بدأت تزيد منها عوامل عدم الاستقرار التي تلازم هذه الدول على نحو ما يعيشه العراق منذ الاحتلال، وما تشهده مصر منذ سنوات، وما قد تشهده دول أخرى في المستقبل.
للعرب المسيحيين مشكلات حية في الدول العربية التي لم تبلغ بعد سن المدنية والمواطنة، وتعاني من أزمات ثقافية وأمنية وتحديات إقليمية ودولية عميقة. وهم لذلك نهب شكوك يذكيها في نفوسهم تنامي فكر متطرف أو ثقافة ينقصها التسامح أو بيئة عامة غير ديمقراطية. ومواجهة هذه المشاكل والشكوك يبدأ بالاعتراف بوجودها وتجنب تجاهلها الذي يفاقم الشعور بها. وقد يحتاج إلى موقف على المستوى القومي تتولاه مؤسسات المجتمع المدني الثقافية والاجتماعية والسياسية، ويكون قادراً على فتح الطرق القطرية للتعامل معها على قاعدة الاعتراف بوجودها والاشتباك معها بدراسات بحثية معمقة، وحوارات قومية ووطنية تشكل جزءا من المدخلات الأساسية لبناء دولة المواطنة.
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة د. عاكف الزعبي جريدة الغد