تظل الفراشة تحوم حول النار عشقا وهياما، حتى تقع فيها فتخرج صوتا أشبه بالأنين، أو الصراخ، ثم ما تلبث أن تتحول إلى رماد، ترى هل كانت تعرف الفراشة هذا المصير؟ هل ثمة فلسفة غامضة تدفعها إلى اختيار الموت حبا، أو الحب موتا؟

مشهد انتحار الفراشة بالنار ألهم الشعراء والكتاب على مدار التاريخ، بل إنه تحول إلى رمز للعشاق الذين يلقون بأنفسهم في هوى يعرفون أنه يفضي إلى الهلاك، ولكنهم لا يستطيعون وقف أنفسهم من الاندفاع الأزلي إلى اللهب، وبالتالي الموت حرقا

يقول أحد الكتاب أن الحب الحقيقي يجعلُ من فكرةِ الموتِ اعتياديةً، سهلةً، وَغير مرعبة. كما يصبحُ مادَّةً بسيطةً للمقايضة؛ الثمنَ الذي يكون الواحدُ مستعداً لدفعه لقاءَ الكثير

سر انجذاب الفراشة إلى النار شغل علماء الطبيعة أيضا، كما شغل المبدعين، ومن غريب أن هذا الانجذاب نحو الموت المحقق، سببه الرغبة في الحياة، وهنا المفارقة الكبرى

يقولون إن انجذاب الحشرات للضوء الطبيعي «ضوء الشمس» نهاراً والتي تسمى بالحشرات النهارية النشاط وانجذاب البعض الآخر من الحشرات إلى ضوء القمر والضوء الصناعي ليلاً والتي تسمي بالحشرات الليلية النشاط، هي ظاهرة سلوكية أودعها الله جلت قدرته في هذه الكائنات لتنظيم حياة هذه الحشرات، لاستمرار أنواعها في الحياة، ويزداد نشاط الفراشات في الليالي المقمرة وتتأثر بدرجات الإضاءة تبعاً لمنازل القمر، فكلما ازداد اكتمال القمر ازدادت كمية الأشعة فوق البنفسجية المنبعثة منه، وإذا علمنا أن إناث هذه الحشرات تحمل غدة تحوي مواد كيمائية تصدر أشعة فوق بنفسجية تجذب الذكور اليها، فإن الفراش ينجذب إلى النار لضعف تمييزه حيث ينجذب للأشعة فوق البنفسجية التي تثيره للقيام بعملية التزاوج ويصر عليها، لكنه يفاجأ بمصيره الحتمي بوقوعه في النار والأكثر دهشة أن الذكر وحدهُ ينجذب نحو الضوء دون الأنثى

وفق معطيات العلم، ثمة إشعاعات محددة من مصدر الضوء هي المسؤولة عن جذب الحشرات، وتم تأكيد الأمر بإجراء بعض التجارب التي أثبتت أن سلسلة من حزم دقيقة من الإشعاعات تحت الحمــــراء التي يبثها مصدر الضوء هي التي تنتج قوة الجـــذب، وقد أجريت هذه التجارب على الفراش، وعُرفَ أن هناك غدة عند طرف بطن الفراشة تفرز بعض الذرات تسمى الرائحة الجنسية ... وهذه المادة الكيميائية تبث أشعة تحت حمـــراء فـتنطلق في الهواء، فيلتقط ذكر الفراش الطائر على ارتفاع معين هذه الأشعة فينجذب نحو الأنثى، ولذلك فإن بعض ذكور الفراش تنجذب نحو الضوء اعتقادا منها أنه توجد أنثى في انتظارها، ولاشك أن المصابيح تـُـنتج كمية وفيرة من مثل تلك الإشعاعات وبذلك ينجذب الكثير من الحشرات الذكور نحوها فيحترقون بنارها طواعية

أليست مفارقة كبرى، حين تصبح الرغبة في الحياة والخلود عبر التزاوج هي نفسها الطريق نحو الموت؟


المراجع

pedia.tagepedia.org

التصانيف

صحافة  حلمي الأسمر   جريدة الدستور   العلوم الاجتماعية