الصورة الأولى:
يوسف محمد ذو العامين، وليد ظروف الاعتقال وصدفة الطلق خلف زنزانة باردة.. يخرج الى نور الحرية وتقول أمه فاطمة الزق إنه خائف من العالم الخارجي! طبعا خائف.. لأنه رضع وبكى وأصيب بالمغص وظهرت أسنانه وخطا أولى خطواته ووقع وانجرح واحترقت يده الصغيرة بالصوبة وجرب طعم الشاي بميرمية زوار العيدين. كل ذلك وهو مستكين في عالمه الداخلي البغيض. فكيف له الا ينحاز للجدران الرمادية والا يتشبت بذراعين مكبلين بأزرار قميص نظيف ومرتب.. يتشبث بالقضبان التي أغلقت وراءه، كما أغلقت على أمهاته العشرات الأخريات اللواتي يبكين يوسف حتى هذه اللحظة.. ويحتضن بالمناوبة قميصه وهن لا يصدقن أن الذئب قد أكله..
الصورة الثانية:
سيدة خمسينية تتعرض للطعن مع ابنها الطبيب وسط السوق التجاري في محافظة الزرقاء من قبل بعض باعة البسطات إثر (خلاف) دب بينهم أثناء عملية بيع وشراء.
لا أعرف.. و لكنني تخيلت قصة حين قرأت الخبر (وليسمح لي أصحاب القصة الحقيقية).. تخيلت أن هذه الخمسينية يومها استيقظت على حلم رأت فيه زوجها المتوفى يقول إنه مشتاق لطبق الأرز بالحليب الذي كانت تقدمه له في شرفة البيت عصارى الصيف.. تخيلت أنها قامت من حلمها على الهاتف واتصلت بابنها في عيادته تترضى عليه وترجوه أن يمر عليها بعد دوامه ليذهبا الى السوق ويبتاعا حوائج الأرز بالحليب تكفي عشرات الأطباق التي نذرت أن توزعها على المحتاجين رحمة لروح أبيه.. تخيلت أنها في السوق اختلفت على سعر صحون الميلامين مع بائعي البسطات وجاهرت بنيتها أن تشتريها من محلات الأدوات المنزلية التي تبيعها بالكيلو.. غضب بعض الباعة من غرورها ولقنوها درسا لن تنساه في احترام سوق البسطات ومعلميه.. لتسقط على الأرض وتسقط صحون الميلامين ويسقط الحلم البسيط.. ويحزن المرحوم في رقدته على طبق الأرز بالحليب الذي لم يأكله ذاك العصر..
الصورة الثالثة:
مدير مدرسة لم تعجبه جرأة طالب ذي خمسة عشر عاما والواقف بآخر الممر يجيب عن سؤاله عن وجهته، فرد الشاب الصغير وهو معجب بصوته الأجش الجديد بأنه استأذن من المعلم ليذهب الى الحمام.. المدير لم تقنعه الاجابة ولم يعجبه الصوت الأجش، فأمر زملاء الطالب بأن يتحلقوا حوله ويجرجروه الى مكتبه على طريقة أبو جودت في باب الحارة حيث استقبله ببربيش أسطوانة الغاز وانهال على كرامته ضربا وطعنا.. كل ذلك حتى يتجلى الهدف الأسمى في تكريس هيبة المعلم و تميز مدير المدرسة!
ملاحظة: انتظرونا في الحلقة المقبلة الأكثر اثارة.. هذه المرة لدينا مدير آخر سيبطح الطالب الجريء بكل اسطوانة الغاز!
الصورة الرابعة:
قوات الاحتلال تحاصرمئات المصلين الفلسطينيين داخل المسجد الأقصى المبارك والشرطة الاسرائيلية تطالب المعتكفين داخل الحرم بتسليم أنفسهم مقابل فتح أبواب الأقصى، فيما طائرات مروحية اسرائيلية تحلق في سماء المدينة المقدسة. (وكالات).
صورة مشرقة:
أولاد وبنات نظيفون ويرتدون ملابس المدرسة الفاخرة، ينزلون من حافلاتهم حاملين حقائبهم الخفيفة، ذلك أن معظم الدفاتر والكتب تبقى في الصفوف.. يتراكضون في ساحات كبيرة حيث الملاعب والمراجيح ورمل صويلح المفيد جدا لأجساد الصغار، وكافيتيريا المدرسة تغريهم برائحة القهوة الأميركية الطازجة المقدمة مع الكعك المحلى حتى يعتادوا –ولو كانوا صغارا- على نكهة النظافة والمدنية.. هناك في الممرات والصفوف تشتم رائحة الهاي جين وكأنك في مستشفى خاص.. لم لا والأطفال الرائعون يلهون به ويتراشقون من غير حساب، فالمدرسة ملتزمة بتعويض النقص مادام الأهل مستعدين لبذل الغالي والنفيس من أجل تأمين لوجستيات الحياة العصرية وعلى رأسها الهاي جين! هناك حين تطلب من  صغير أن يرسم لك لوحة.. سيرسم حقلا أخضر وبيتا زاهي الألوان وعلى طرف الباب بقرة وزرافة وخنزير!
صورة حقيقية:
أولاد وبنات آخرون في النمتة والبقيع وشيحة يصلون مدارسهم مشيا على الأقدام وللمحظوظين ركوبا على الحمار.. يرتدون ملابس المدرسة الكالحة من كثرة غسيل السنوات المتعاقبة على الأخوة الأكبر.. يراجعون في طريقهم سورة القرآن وقصيدة عرار المقررة حفظا.. يتسلون بتراشق الحجارة والتراب بدون أن يعرفوا أهمية التراب لأجسادهم.. يحملون على ظهورهم الصغيرة حقائب قماش تتسع للكتب كافة لأنهم لا يعرفون بالضبط مَنْ مدرسهم الذي لن يغيب اليوم!
هؤلاء لا يحقدون على أولئك.. ببساطة لأنهم لم يتشرفوا بمقابلة الهاي جين من قبل.. هؤلاء يستغربون بشدة أن هناك اختراعا علميا للتعقيم أقوى من الكاز.. وهناك حين تطلب من صغير أن يرسم لوحة.. سيتناول قلم الرصاص القصير ويرسم حافلة كبيرة جدا فيها كل أصحابه وأهله.. وعلى طرف الباص يمشي الحماروحيدا.   

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة   جريدة الغد  حنان كامل الشيخ