بصراحة في كل مرة أقرر فيها أن أكتب عن الحياة، أجدني منجرة لأخبار تهز البدن، وتربي جلطات متراكمة، من شأنها -عمليا- أن تقصر من عمر "الحياة"!
الموضوع الذي استفزني يعد حلقة جديدة من حلقات "الراقصة والسياسي"، والتي ترسخ نظرية تداخل الحياتيات بالسياسة ضمن عالم تبددت مفاهيمه و"تابوهاته" في فوضى الحواس التي استشرت به رغما عن أنف مفكريه وأساتذته ومنظريه وعلمائه، في زمن بقي فيه بعض شرفاء، يرتدون طوافات صفراء، تقيهم الغرق في المتوسط!
والآن وبعد هذه المقدمة اسمحوا لي أن أشمر عن ساعدي وأبدأ:
مائة مليون دولار يا كفرة؟! دية سوزان تميم مائة مليون دولار؟ رقم وخبر لا يتصوره عقل مواطن عربي عادي، ولا حتى فوق العادة .. رقم سينهي "مسرحية" هشام طلعت مصطفى الدراماسياسية والتي انشغل بها الإعلام المصري والعربي وحتى الغربي لشهور طويلة، رغم توقعات السيناريو الأخير بفوز المال على السياسة، طبعا مع التأكيد بأن حجم التوقعات لم يصل إلى نصف المبلغ المدفوع.
المؤسسات التي احتضنت فعاليات هذا السجال القانوني والسياسي والإعلامي الطويل، هي ذاتها التي تهلل وتعلل قانونيا وسياسيا وإعلاميا، لقيام "منشآتها الهندسية" على طول الحدود التي تفصلها عن غزة، المحاصرة منذ أربعة أعوام، وهي أيضا التي دفعت دولا أخرى، من ذوات الدم الحامي للالتفاف على الحصار البري، والمرابطة في عرض البحر بأسطول حرية، يراوح قوارب الغزيين، ذهابا وإيابا، حتى أنهك ملاحيه دوارُ القهر!
وكل ذلك لماذا؟ لأن تاريخا طويلا وعريضا من الفكر والثقافة والحب، قرر فجأة أنه يخشى على أمنه الحدودي من ثلة متسللين يهربون السكر والغاز والدخان والشاي والحمير الوحشية، من دون أن يرف له جفن على أمنه الاجتماعي والقانوني والسيادي، من شلة "زعران" قلبوا الطاولة على رؤوس الشرفاء والحكماء، وكرسوا شعارهم الشهير نشيدا "اللي معاه قرش يسوى قرش"!
تخيلوا معي أن فك حصار هشام طلعت كلفه مائة مليون دولار، وهو بالمناسبة حر بأمواله وبفك رقبته بالطريقة التي يرتئيها، بخاصة وأنه يعرف كيف ومن يخاطب. لكن أن يكون ذلك مقبولا ومبررا، بل ومرحبا به، عبر قنوات الإعلام والبرلمان والقضاء، فهذا هو السؤال الكبير! لماذا...
لماذا لم تندفع هذه الأقلام والأصوات لتعيب على أصحاب القرار، المبالغة بلعب دور الخل الوفي، في تنفيذ بنود الحصار على غزة، في الوقت الذي كان بإمكانهم السماح ببعض الخروقات هنا وهناك، لاعتبارات إنسانية بحتة؟ لماذا لم تؤد المؤسسات "الكبيرة"، العامة والخاصة دورها -ولو حتى الدعائي- المتوقع منها، في حفلة كسر الحصار الذي ترفرف على نوافذه أعلام أكثر زهاء؟ لماذا تلتهي وسائل إعلامهم بالـ "شهيدة " سوزان والسيد أبو سوزان والرفيقة أم سوزان، إبان رحلة الصمود والعناد والبطولة، لرجال ونساء ينشدون بلغاتهم المختلفة:"شدوا الهمة، الهمة قوية"؟
لماذا لا يتحرك الدم في مياههم الإقليمية، أثناء مرور سفن المساعدات الطبية والأخشاب والعربات الكهربائية للمعاقين حركيا؟ بينما يحرقون دم شبابهم وشيابهم على نتيجة 3/1 في مباراة الأهلي والزمالك، المملة من كثرة التكرار؟
واليوم انقشع الضباب الذي كان يغلف مصير مسافرين لا يميد دوار البحر برؤوسهم، وبينما تتناقل وسائل الإعلام أنباء استشهاد تسعة عشر متطوعا برصاص الغل الإسرائيلي، أدعو الأخوة على الرصيف الآخر من الجدار الفولاذي إلى فتح ملف بغاية الأهمية والحساسية.. مين اللي سرق العمود؟

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة   جريدة الغد  حنان كامل الشيخ