لأنني صدقت أنكم أمة ميتة، ما كان لها أن تبعث من جديد بين صفوف طابور العيش المدعم، وغرز الحشيش الرخيص!

أعتذر لأنني صدقت هذه الصورة الحقيرة، ولأنني شاهدتها أصلا، أو لأنني دفعت قرشا واحدا ثمنا لتذكرة دخول فيلم، كان يظهركم كمجموعة رعاع تركضون خلف أكياس اللحم.. وتتناوبون على سيجارة "بانغو"، وتبيعون لحمكم الغض، بشهادات زواج مزورة، لأول مستثمرعربي!

أعتذر لأنني لم أركم جيدا، لم أتلمسكم، لم أسمع أصواتكم الحقيقية، لم أتمعن بعيونكم، في كل مرة كنت أزور فيها القاهرة. أعتذر لأنني فكرتها "القاهرة" من الأساس. أعتذر لأنني ركضت خلف مشاهد اعلان "مصر.. البيت بيتك"، أبحث عن الأفراح والراقصات والكازينوهات والحمام المحشي، ومولات سيتي ستارز، وقوارب النيل ودريم لاند، ومدينة الانتاج وصور الفنانين!.

أعتذر لأنني كنت أستاء من الزحمة وتكوم الأجساد في الشوارع، ولأنني كنت أتشاطر وألتقط بكاميراتي المتعالية، صور الفقراء وهم يعشقون على "كورنيش" النيل، ومشاهد نساء ممتلئات، يركضن خلف حافلة المواصلات.

سحقا لي ولكاميرتي ولفرق العملة الذي أوهمني بأنني.. أنظف! تبت يد كل من استهزأ بأبناء قومه، وأضحكنا على عجز الغلابى وعشوائية أيامهم، خاصة ذلك الذي ضحك علينا حتى صدقنا أنه في نهاية الفيلم، قاد مظاهرة ضخمة ضد النظام السائد. كيف لم ننتبه أنه ومن خلفه الآلاف لم يرددوا كلمة "لا "، بل كانوا يهتفون بملء حناجرهم حرفا واحدا: آآآآآآآآآآآآ !!!!

اليوم وأنا أكتب لكم، دموعي تحجب الرؤية عن حروف الطباعة، فالصورة على شاشة الأخبار أمامي واضحة وصادقة وقاسية.. لكم ألوم نفسي وأوبخها، ربما نهرت يوما ما على عامل بسيط، تأخر في تغيير حجر نرجيلتي.. ربما كان اسمه محمد وهو الآن يفترش أرض ميدان طلعت حرب، ويحلم بالخلاص. أو ربما تكبرت على ابتسامة صبية اسكندرانية، ظننت بفوقية السواح، أنها تريد غرضا مني، لماذا لم أبادلها الابتسامة؟، لماذا لا نبتسم للضعفاء، يا الله! أهي نفسها الشهيدة التي أرى صورتها الآن تحملها أختها المكلومة ؟؟

أعتذر للشعب المصري، الذي انكسر بالفقر والفساد والقمع والخوف، وغالب ثورة صدره على الظلم القابع فوقه، يوما بعد يوم، عاما بعد عام، عقدا بعد عقد. لكنه لم يتأخر لحظة، حين استشعر ظلما طال شعبا عربيا.. آخر!

أعتذر لكم، وأنحني أقبل رؤوسكم واحدا واحدا، بل وأحسدكم على غضبكم وعصيانكم وتكاتفكم ولجانكم.. أحسدكم على قراركم وعلى.. ميدان تحريركم!


المراجع

alghad.com

التصانيف

صحافة   جريدة الغد  حنان كامل الشيخ