أيام المدرسة، كانت هناك دائما في الصف "عريفة"، مهمتها المعلن عنها، هي مراقبة سير النظام داخل الصف وشقاوة الطالبات، أثناء تغيب المعلمة أو المربية، أي في استراحات الخمس دقائق!
أما مهامها غير المعلن عنها، فهي معروفة لجميع من "انقرص" بسبب تجاربه المرة مع التقارير المرسلة عن سيرته الذاتية، وتوجهاته العلمية والرياضية والاجتماعية الخطيرة، التي يمكن لها أن تهدد أمن مربي الصف!
كنا صغيرات جدا، ولم تكن سيرنا الذاتية تتعدى بضع سنوات قضيناها بين باب المدرسة وباب الدار. أما توجهاتنا الدراسية واللامنهجية، فكانت تحكمها علاقاتنا مع معلماتنا "الحقيقيات". وهنا كانت الطامة!
فحبنا وكرهنا للمعلمات، كنا ننفّسه ضحكات، وغمزات بريئة في خمس دقائق الاستراحة، والتي لم تكن مريحة أبدا للعريفة النشيطة، والمخلصة في نقل الوقائع، وكتابة التقارير، حسب المعطيات الآتية:
- إحساسها الذكي بكوايس غرفة المعلمات، وثرثرة الساحة المدرسية، وحمامات البنات، وصولا إلى مزاج مساعدة المديرة!
- قرارها المتجدد أنها في منصب يستحيل أن تتخلى عنه، أو يتخلى عنها مهما كانت الظروف الداخلية أو الخارجية!
أضحك كثيرا على ماضي المؤامرات الصغيرة، الذي كان يطعن في ولائنا لمعلمة الفن مثلا، لأننا كنا نتذمر من كسلها، وحملها المتكرر، والذي كان يحوّل حصتها إلى درس نسخ من كتاب اللغة العربية! وكنا ندفع ثمن تأففنا في الدقائق الخمس التي تسبق الحصة، رجاءات واستعطافات واسترحامات، لا تتوقف إلا مع قرع جرس الرحمة، وخروجنا بدموع أعيننا، من الفتنة التي كنا نستغرب، كيف ومتى وصلت بهذه السرعة!!
أضحك لأننا كنا نرسم للعريفة، هالة هلامية الشكل، ونعتقد أنها تمتلك موهبة خاصة ومقدرات خارجة عن المألوف، تمكنها من إيصال الرسالة بالدقة، والتفاصيل التي كانت تدهشنا. وكنا نصل إلى مرحلة الإيمان الراسخ، بأنه لولا تميزها ذاك، ما استحقت أن تكون عريفة على شقاوتنا!
صدقنا أنها خارقة للعادة، وصدقنا أننا نستحق العقاب، بسبب عجز إمكاناتنا، مقابل امتلاكها لمفتاح القوة الوحيد... المعلومة!
لكننا كبرنا الآن، وأدركنا غباءنا المركب، والذي أوهمنا بزمن المعجزات. فهمنا أنها لم تمتلك معلومة، بقدر ما استملكت قدرة على الإقناع، وبسط الرأي، وحجب الحقائق، بناء على استنتاجات أوجدها خيالها المريض. وأنها كانت تستبق الأحداث المعلنة بالصوتين، المنخفض والمرتفع، من خلال قراءة الشفاه، والشفاه فقط!
لقد كبرنا ولم نتعلم الدرس.. لم نتعلم إلا أن ننتظر من يقول أشياءنا باللغة التي يراها هو، وليس كما أردنا لها أن تصل. لم نتعلم أن نكون "عريفين" على أقوالنا وأفكارنا وأحلامنا. بل لم نتعلم أن نصل مبكرين إلى ساحة المدرسة، وغرفة مساعدة المديرة، قبل أن تصل المعلومة الخطأ!
كبرنا وما نزال ننتظر بفارغ التعب، خمس دقائق أخرى، نتنفس فيها من دون أن ننتبه، لعريف الصف الذي كبر!
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة جريدة الغد حنان كامل الشيخ