يمكن لمن يريد أن يرى في إضراب عمال شركة البوتاس العربية، وهو الأطول والأكثر كلفة في تاريخ المملكة، استقواءً على الشركة لانتزاع مكتسبات ستضر بصاحب العمل والعمال في آن. لكن يمكن، أيضا، لمن يريد أن يقرأ الوضع بعمق أكثر، أن ينظر إلى قرار الإضراب وآليات تنفيذه على أنه دليل على عملية نضوج للمجتمع الذي بدأ يفيد من أجواء أكثر تقبلا لبعض تمثّلات الديمقراطية.
الإفادة من التجربة تقتضي تبني النظرة الايجابية. فلا ضرر في أن يضرب العمال لتحسين شروط عملهم وضمان انعكاس الإنجاز الجيد لشركاتهم على أوضاعهم. ولا يجوز التعامل مع الإضرابات العمالية على انها تهديد للأمن الوطني، وضربة لاستقرار الشركات واستمراريتها. فالمجتمعات الديمقراطية هي التي توفر مساحات أوسع لحركات عمالية ناضجة.
التوتر بين رأس المال والعمال صفة رافقت الاقتصادات الحرة منذ نشأت. ولا شك أن الأردن سيرى هذا التوتر يترجم الى نزاعات عمالية بشكل أكبر الآن مع نمو حصة القطاع الخاص في الاقتصاد الوطني وازدياد مساحة التعبير السلمي عن الرأي، نتيجةً لمسيرة الانفتاح والدمقرطة التي اعلنها البلد حتمية مستقبلية.
هذا يفرض إعادة ترتيب القوانين الناظمة لعلاقة اصحاب العمل والعمال ويستدعي أيضا إعادة تعريف دور الحكومة في تنظيم العلاقة بين قوى الإنتاج، بما يعكس التطورات الجديدة ويعدّ البلد للتعامل معها بشكل يحافظ على التوازن المطلوب ويحمي الاقتصاد.
المستقبل سيحمل تجذراً للعمل النقابي وبالتالي تطوراً في آليات عمل النقابات العمالية. هذا يفرض على الشركات ان تطور هي أيضاً من آليات تعاملها مع النقابات ضمن أطر شفافة تعاقدية واضحة تلزمها وتلزم النقابات.
لم يكن التفاوض الجماعي، من خلال النقابات، على الرواتب والزيادات وغيرها من حقوق العمال جزءاً من المشهد الاقتصادي في الأردن. وبالتالي لم تتعامل الشركات مع العمال على انهم جسد واحد تنظمه النقابة وتلزمه بقراراتها.
وآن لمثل هذا التغير أن يحدث في نظرة رأس المال إلى العمالة. وعلى الحكومة دور تعديل التشريعات بما يحمي الشركات والعمال في آن. فالوضوح التشريعي وترسيخ التعاقدية معياراً لحل الخلافات شرط يجب أن يتوفر في المستقبل.
حينذاك، سيكون التفاوض سبيل حل الخلافات والنزاعات. وسيؤدي الوضوح التشريعي الى نضوج العمل النقابي والى تطوير الشركات آليات ممأسسة للتفاوض مع عمالها.
بالطبع، لن يلغي ذلك إمكانية تطور النزاعات إلى إضرابات وخلافات عمالية في المستقبل. لكنه سيقلل من ضبابية آليات التعامل معها، وسيجعل القانون المرجع الأول والأخير في حل النزاعات العمالية.
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة ايمن الصفدي جريدة الغد