زمان، حين كنا نسمع ذكريات كبارنا من عشرين سنة مضت، كنا نستغرب كثيرا، ونعبر عن إحساسنا بطول المسافة، ما بين السنين. حتى جاء اليوم الذي دخلنا فيه الى الأوركسترا العمرية، وصارت العشرين عاما، وكأنها أمس أو أول من أمس على أبعد تقدير!
إعلان وفاة في الجريدة، هو سبب كتابتي لمقال هذا الأسبوع. إعلان وفاة تصادف تشابه الأسماء فيه إلى حد بعيد، جعلني أتجمد في مكاني، على كرسي طاولة المطبخ، لمدة لا أعرف أن أحددها بالضبط. لكن ما أعادني إلى طبيعتي نوعا ما، هو أسماء الناعين الذين أعرف أنها لا تتقاطع مطلقا مع أسماء أولاد وبنات ذلك الشخص. ومع ذلك، سألت نفسي وبخوف، ماذا لو أنه هو!! سألت نفسي وقلبي يرتجف ألما وجزعا، ماذا لو أن الحياة مرت بهذه الوتيرة المريبة، والتي عجلت النهايات، كما عاجلت بانتهاء البدايات؟ ماذا لو أن الزمن انقضى، وأنا أراوح مكاني في حارة العناد الكريه، ولا أبارح زاوية ضيقة، حشرتني فيها متلازمة الكرامة وعزة النفس؟ ماذا لو أنه حقا مات؟!!
الموت الذي هو حق علينا جميعا، لا يفترض أن يلهينا عن حقنا في الحياة. وأنا أقصد الحياة، بكل ما فيها من ترجمات عملية لأفكارنا وإحساسنا وعاطفتنا تجاه الآخرين. إنها فلسفة معقدة تعلمنا كيف أن مقاربة النهاية، تستدعي بالضرورة الرجوع إلى المقدمة والمتن والتفاصيل.
تعيدنا إلى أنفسنا وإلى الدراما العجيبة التي ارتأينا أن تكون حياتنا، بدون أن نقف قليلا على القارعات، ننظر حولنا ونتأكد من أشيائنا، من أغراضنا التي تساقطت منا، ونحن في منتصف أو ثلث أو حتى آخر الطريق. أن نسأل أنفسنا عن العبء الذي تحررنا منه، بذكاء مرة وبغباء مرات، إن كان عبئا حقا، أم أنه مونة المشوار. أن تتحرر جوانبنا وأمامنا وفوقنا وتحتنا، ونتدارك، حتى ولو كنا متأخرين، أننا نفقد ملحنا وماءنا، بفعل التعرق الإرادي، والتخلص المحموم من زوائد، ربما ستعيق تحركنا إلى النهاية!
كلنا نفكر بهذه الأنانية المستعرة نحو النجاح أو التألق أو التفرد بالمكان. وكأن هذا المكان لم يكن ليتسع لأشخاص، نتفنن نحن بتوصيفهم، بالفاشلين أو النفعيين أو اليائسين أو المغتاظين أو الرجعيين أو المتخلفين، أو أي صفة تهدهد على تعنتنا وقراراتنا التي أثبتت الحياة كثيرا لنا، أنها خاطئة!
ومع ذلك فنحن لا نتوجع من هذه الحقيقة. ومازلنا نصر على أن تاريخنا يمكن أن يمر، وحياتنا لها أن تستمر، بدون هؤلاء الفاشلين!
لا أعرف إن كان هناك كابح يقلل من سرعة المضي في الخطأ، غير إعلان في جريدة. لكنني أشكر نسب الـ"B12" المنخفضة كالعادة في الدم، لأنها ما تزال قادرة على تحفيز الذاكرة، ونبهتني أن بعض المتعلقات التي استغنيت عنها، طوعا أو كرها، أحتاج أن أعيدها إلى حقيبة أيامي، باعتذار بتنازل بطبطبة "بغطرشة"، الأمر ليس مستحيلا.
وهذا يتطلب طبعا مناكفة الأنفة والغرور والكبرياء، وكل تلك المسميات التي لا تسمن ولا تغني من شوق. فالرحلة وإن طالت، قصيرة. هذا رأيي، وقد علمني إعلان الوفاة ذاك أن كل شيء يمكن العودة عنه، والعودة إليه، إلا الشيء الذي صار تحت التراب!
بقلم: حنان كامل الشيخ.
المراجع
alghad.com
التصانيف
صحافة جريدة الغد حنان كامل الشيخ الآداب