منذ الحادي عشر من تموز (يوليو) الماضي، تفرض إسرائيل حصاراً بحرياً وجوياً على لبنان. وما يزال هذا الحصار قائماً رغم وقف الحرب الإسرائيلية على لبنان التزاماً بقرار مجلس الأمن الدولي رقم 1701، ورغم الدعوات اللبنانية والأوروبية، والتي جاء آخرها من الرئيس الفرنسي جاك شيراك أمس، لإنهاء هذا الحصار اللاقانوني واللاأخلاقي والذي يشكل خرقاً واضحاً للقوانين والأعراف الدولية.
إسرائيل تملك القدرة العسكرية لإغلاق الأجواء اللبنانية. فعلت ذلك وقت الحرب. وها هي تبقي لبنان محاصراً الآن، غير آبهة بوهن موقفها القانوني وبالرفض الدولي لسياساتها العدائية. الولايات المتحدة تدعمها. ولا يستطيع أحد أن يخرق الحصار.
وحدها طائرات عسكرية أردنية حطت في مطار بيروت على امتداد أيام الحرب. حملت هذه الطائرات المساعدات إلى لبنان، ونقلت صحافيين عرباً وأجانب أسهموا في تغطية الحرب والجرائم التي ارتكبتها إسرائيل ضده. وساعدت مواطنين لبنانيين تقطّعت بهم السبل ولم يجدوا غير الطائرات الأردنية سبيلاً للخروج من لبنان إذ اضطروا لمغادرة وطنهم.
ما يجب أن يكون واضحاً هو أن الطائرات الأردنية لم تخرق الحصار الإسرائيلي آنذاك وتكسر احتكار طائرات سلاح الجو الإسرائيلي الأجواء اللبنانية في إطار مواجهة عسكرية مع إسرائيل. فلا يملك الأردن قدرة التصدي لإسرائيل. ولم يرسل طائراته إلى لبنان في فعل متحدٍّ للدولة الصهيونية ومدعوم بتغطية عسكرية سورية، أو بضغط عربي يستعمل أوراقاً مثل تهديد قطري بإخراج القوات الأميركية من قطر أو قطع النفط عن الغرب أو غير ذلك من أوجه الضغوط.
استطاع الأردن تسيير طائراته التي تحمل العون إلى لبنان ضمن اتفاق سياسي تم الوصول إليه من خلال توظيف الأردن علاقات دولية جيدة مع الولايات المتحدة ومعاهدة السلام التي أتاحت للبلد التفاوض مع إسرائيل وصولاً الى ترتيب يسمح بكسر الحصار الجوي.
فعل الأردن ذلك تلبية لحاجة لبنانية ولعدم توفر آليات بديلة. وليتذكر الجميع أن كل الطائرات التي دخلت لبنان، ومن بينها تلك التي نقلت وزراء الخارجية العرب إلى بيروت لعقد اجتماعهم الطارئ، ما كانت لتحط في بيروت من دون موافقة إسرائيلية.
الآن يتعرض الأردن لحملة شرسة بسبب فرض توقف جميع الطائرات المتجهة إلى بيروت في مطار الملكة علياء الدولي وإخضاع الطائرات لعملية تفتيش يقول البعض إنها صعبة وطويلة ودقيقة.
فما إن بدأ هذا الإجراء حتى تعالت أصوات، بعضها امتهن المزايدة، وبعضها الآخر ربما لا يعرف حقيقة ما يجري أو لا يفهم أسبابه، يتهم البلد بتنفيذ شروط إسرائيلية والإساءة لركاب الطائرات وغيرها من الاتهامات.
ومرة أخرى يُغفل الكثيرون ممن يتحدثون عن هذا الموضوع الحقيقة، بقصد أو بغير قصد.
لا مجال للمحاججة أن إجبار الطائرات المتجهة إلى لبنان التوقف في عمان قرار لم تفرضه إسرائيل. فالكيان الصهيوني يتحدى العالم كله ويفرض الحصار على لبنان. لكن لبنان لا يستطيع ان يتحمل تبعات هذا الحصار ويحتاج منفذا جوياً. ولا شك أن مفاوضات طويلة وكبيرة جرت وضغوطاً مورست لتوفير هذا المنفذ في ضوء تعنت إسرائيل ورفضها رفع الحصار.
ليس صعباً، في ضوء كل ذلك، الاستنتاج أن اقتراح تسيير الطائرات عبر الأردن كان الخيار الوحيد الممكن. وافق لبنان على ذلك، ووافق الأردن لاحقاً خدمةً للبنان واللبنانيين.
وبدأت الحكاية. اتهامات وتشكيك وتخوين إلى غيره من الانتقادات والإساءات. والسؤال الذي يجب أن يُطرح على من يتعرض لهذه القضية هو: ما الذي يستفيده الاردن من هذا الترتيب؟ أولم يكن باستطاعة البلد أن يقول إنه لا يوافق على هذا الإجراء لأن البعض سيحتج وسيشكك وسيخوّن؟
كان ذلك ممكناً. لكن لبنان كان سيدفع ثمناً باهظاً لذلك. وواضح أن الحكومة اللبنانية رأت في هذا الترتيب تخفيفاً من ضرر أعظم. وقبل الأردن القيام بهذا الدور ليساعد لبنان فتحمّل، بالتالي، عبء مسؤولية تسيير الطائرات عبر أراضيه وضمان الإجراءات الأمنية المطلوبة.
بيد أن المسؤولين المعنيين بهذا الملف يتحملون جزءاً من مسؤولية تعرض الأردن للاتهامات. فقد كان مطلوبا من هؤلاء أن يوضحوا بشكل لا لبس فيه كل تفاصيل الاتفاق منذ البداية. وكان ضرورياً أن يقولوا للملأ إننا قبلنا ان تحط الطائرات في عمان وهي في طريقها إلى لبنان لأننا نريد أن نخدم الأشقاء اللبنانيين ولأن المجتمع الدولي كله، العرب والأوروبيين والصينيين والروس، عجزوا عن توفير البديل.
ولأن الأردن يريد أن يساعد لبنان، قبل، كما الحكومة اللبنانية، بهذا الإجراء. وليفكر من يتصدون لهذا الملف من سيكون الخاسر لو قرر الأردن التوقف عن استقبال الطائرات المتجهة لبيروت. الجواب هو أن لبنان سيعاني أكثر مما يعانيه الآن.
وهذا، من الواضح، ما لا يريده الأردن. لذلك هو مستمر في استقبال الطائرات المتجهة إلى لبنان. فالبديل هو ترك لبنان لمعاناته يواجه مشكلته وحيداً. وهذا أمر لا يقبله إلا المزايدون الذين لا يعنيهم وجع اللبنانيين ومعاناتهم.
يبقى القول إنه على المسؤولين المعنيين أن يكونوا أكثر فاعلية في توضيح الموقف وأسبابه. وقول الحقيقة، كما هي ومن دون أي انتقاص لأن ليس فيها ما يعيب الأردن، هو أفضل رد على كل من يعترض على الإجراء مهما كانت الأسباب وراء اعتراضاتهم ومواقفهم.
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة ايمن الصفدي جريدة الغد