هذا هو العام الوحيد منذ سنوات نقطعه من دون وجود "مبادرة" تنشغل بها الساحة السياسية!
فمن "الأردن اولا" الى "الأجندة الوطنية" الى "كلنا الأردن" ملأنا فراغ السنوات الماضية كل مرّة بمشروع يضطلع لنفسه بدور سياسي في وضع برنامج وخطّة وأهداف للمستقبل. وفي الجوهر كانت المبادرات تخفف ضغوط النخب حول الحكومة وتنقل ساحة الحراك السياسي بعيدا عنها، وتعفي السلطة التنفيذية المسؤولة عن إدارة الشأن اليومي من عبء ومسؤولية القيادة السياسية، التي تضطلع بها عادة الأحزاب السياسية الحاكمة في الدول الديمقراطية غير الموجودة عندنا. وإذا افترضنا شيئا من التخابث في المبادرات فهي نيّة مشاغلة النخب بالشراكة في صناعة القرار بعيدا عن ساحة صنع القرار.
كانت لجان "الأردن أولا" مكلفة بالحوار والخروج بمقترحات إصلاحية في مجالات محددة، مثل النقابات والأحزاب والانتخابات وكوتا المرأة، استنادا إلى وثيقة صاغتها اللجنة العامّة، بينما كانت مهمّة لجنة الأجندة الوطنية أوسع وأبعد مدى، فقد كان عليها ان تقترح رؤية وبرنامجا يكونان بمثابة خريطة طريق لما نريد أن يكون عليه الأردن بعد 10 سنوات، وعليه أنجزت مجلدات من الوثائق في جميع الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
أمّا "هيئة كلنا الأردن" فقد جاءت من طبيعة مختلفة، وقد ولدت الفكرة ردّا على التفجيرات الإرهابية في الفنادق، وتطورت من خلال لقاء وطني ضخم ضمّ حوالي ألف شخصية، إلى إفراز هيئة استشارية ملكية دائمة، مثلت ما يشبه ائتلافا وطنيا من كل ألوان الطيف السياسي مهمتها تحقيق التواصل ومتابعة الالتزام بالأولويات التي تقررت في الملتقى الوطني.
كنت عضوا في اللجنة التنفيذية المؤقتة لهيئة "كلنا الأردن" المكلفة وضع هيكلية وآلية لعمل الهيئة ورأيت في أول اجتماع عند رئيس الوزراء د. معروف البخيت أن أسجل وجهة نظر مبدئية، وأنا أفكر في مشروعية هيئات كهذه، فقلت أن هكذا هيئات لا معنى ولا مكان لها في ديمقراطية تقوم على تداول الأحزاب والبرامج على السلطة التنفيذية عبر التفويض من صناديق الاقتراع، أمّا وإننا لم نصل إلى ذلك فيمكن قبول هكذا هيئات كصيغ عمل للوصول الى ذاك الهدف. وقد اتضح بسرعة ان الهيئة غير مخولة حقيقة بهذا الدور، فاقتصرت مجددا على صياغة أوراق عمل فيما كانت الاستحقاقات الانتخابية البلدية والنيابية تقترب وضمن رؤية محسومة مسبقا لتضع نهاية موضوعية لعمر الهيئة.
مرّ أكثر من عام على الانتخابات، وها نحن كما لو أننا نعاني أعراض الانسحاب عند المدمنين. فقد تعودنا على وجود مشروع ما في الأفق نشتغل عليه ونختلف فيه ونتسابق لوضع لمساتنا ورؤيتنا به. وبدلا من ذلك فإن الساحة السياسية مشرعة الآن، فقط عمليات سجال ومنافسة بين مواقع النفوذ، ويأتي رجع صداها مضخما، يؤجج بدوره جذوتها ويعزز ظواهر الاستقطاب والانحياز التي تنتعش بها وتعتاش عليها مختلف الطفيليات.
قد يبدو إطلاق مبادرة جديدة مغريا كمدخل لتجاوز أجواء الشدّ والانقسام والاستقطاب الراهنة. ولعل سائلا يقول كيف يمكن إعادة اقتراح مبادرات بعد ان تعرضت بمصداقيتها للتصدع. وقد اتفقنا للتو انها أشغلت الناس وشاغلتهم فقط، ولم تكن برسم التطبيق. طيب لنقل أن الدواء من نوع الداء تماما، كما يحدث مع المدمنين! لكن وقد غامرنا باقتراح مبادرة فهل لها من مهمّة مقنعة! نعم, لكن بالتأكيد ليس تقديم مقترحات جديدة للإصلاح، فكل ما يمكن اقتراحه موجود في وثائق ومداولات سابقة، إنها دراسة المبادرات السابقة.
المبادرة يجب ان تجيب عن السؤال التالي: كيف ولماذا حصل ما حصل لجميع المبادرات السابقة؟! اذ ان نقطة الانطلاق الجديدة تبدأ من الدروس المستخلصة.. أليس كذلك؟!
المراجع
جريدةا لغد
التصانيف
جميل النمري صحافة جريدة الغد