يثير النقد الذاتي الذي كتبه عمرو حمزاوي في عدد أمس من "الغد" شؤونا وشجونا لدى فئة الكتاب الصحافيين بقدر حساسية كل منهم للقضية المطروحة، أعني تجاوز الكاتب على قناعاته العميقة مراعاة لحسابات شتّى أقلها مراعاة الجو السائد والمزاج العام.
عمرو حمزاوي باحث في معهد كارنيغي، التقيت به مرّة واحدة قبل سنوات في بيروت قبل ان يحقق نجومية واسعة كضيف مطلوب على الفضائيات. وبوصفي علمانيا وديمقراطيا تقدميا كنت مسرورا بباحث لامع يكتب بطريقة مميزة ويحمل نفس القيم والتوجهات، لكنني لم أعد مسرورا به كثيرا كمحلل سياسي على الفضائيات، اذ لم يكن تماما الشخص الذي أتوقعه فقد كنت اشعر انه يقوم بـ "دوزنة" الحديث والتحليل على وقع حسابات شعبوية مع المتلقي. وكنت أقدر أنه كباحث في مؤسسة أميركية يخاطب الرأي العام العربي ربما لديه ضمنا حاجة غريزية للدفاع عن وطنيته فيتكلف انحيازا زائدا لما يلقى هوى لدى المستمعين.
لم أتوقع ان يعود بهذه المراجعة الجريئة والصريحة التي يقرّ فيها بأنه انزلق لمسايرة اتجاهات سطحية واختزالية (وأضيف من عندي تجهيلية ) للرأي العام في تلك الأوقات المضطربة والساخنة للصراع، ولم يشأ ان يخاطر بإغضاب الجمهور بآراء علمانية واحكام أكثر موضوعية تجاهنا وتجاه الغرب.
لاشك أن ساعة الامتحان الحقيقي هي التمسك بالقناعات والمجاهرة بها حين تكون من نوع السباحة عكس التيار، وهذا النقد الذاتي ليس سهلا أبدا فهو يدينه امام أصدقائه وخصومه على السواء، لكن يبقى له فضل الشجاعة والتجرؤ على الذات بهذا النقد الذي يثبت من خلاله جوهر إخلاصه وولائه للفكر الذي يحمله لدرجة الاستعداد لدفع ثمن التراخي عنه في لحظات معينة.
لم يكن زمنا سهلا على اصحاب القناعات العلمية الديمقراطية الليبرالية والعلمانية حين أصبح الخيار بين الخطأ والخطأ، بين التفجيرات الانتحارية الفلسطينية والقصف والتوغلات الدموية الاسرائيلية، بين قيادة صدّام حسين الكارثية وعدوانية الولايات المتحدّة الصلفة، بين أصولية بن لادن الاسلامية وأصولية المحافظين الجدد المسيحية. بين الديمقراطية "المفروضة" من الغرب ورفض الديمقراطية المتأصّل في الشرق.
لم يكن زمنا سهلا حين كانت الولايات المتحدة تتأهب لغزو العراق ان تقول لصدّام حسين ادفعْ ثمن خطاياك وتنحَ لإنقاذ العراق، لم يكن سهلا ان تخاطب هيجان الرأي العام بلغة تبدو وكأنها تخذل المعسكر الذي انت فيه.
يخضع الكتّاب لضغوطات مراوغة وغير مرئية تقود الى مراوغتهم هم لأقلامهم وقناعاتهم على مستويات شتّى، وأنا لا أتحدث عن كل أنواع الكتّاب، بل عن كتّاب لديهم رؤية وقناعات وقضية لكنهم يساومون ضمنا أو يتنازلون لاعتبارات مثل عدم صدم الرأي العام ومواجهته. ولهذا النوع من الكتّاب يكون إشهار عمرو حمزاوي لهذا النقد الذاتي القاسي والجريء بمثابة رسالة، اقبلوا لبعض الوقت أن يرميكم الجمهور – معنويا- بالبطاطا والبيض الفاسد ولا تتنازلوا عن قناعاتكم.
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
جميل النمري صحافة جريدة الغد