قرار التبرئة المكرر من أعلى مرجع قضائي، وهو محكمة التمييز، للمتهمين في قضية "الكابسات" يعيد بقوّة طرح الوجه الآخر للمشكلة، وهو ظلم الأبرياء تحت ضغط الرغبة في تقديم إنجاز امام الرأي العام.
لدى الرأي العام شك مقيم نغذيه، نحن المعلقين في الصحافة، بأن مكافحة الفساد تقتصر غالبا على السمك الصغير فيما تفلت منه الحيتان، ولذلك نصفق وننتشي حالما يوجه الاتهام لشخصية مهمّة. فما بالك أن يجري توقيفها! فهذا دليل قاطع على توفر الإرادة في مواجهة الفساد.
لكن علينا أن نتذكر أنّ المتهم بريء حتّى تثبت إدانته. والمشكلة أن كارثة تلحق سلفا بسمعة المتهم بمجرد توقيفه. وتبدو القضية شائكة بالفعل، فالمعنيون بمكافحة الفساد يتحركون بين حدّين، مثل نصل السكين، التجرؤ على الفساد والخشية من ظلم عباد الله في آن واحد.
لعل قضية الكابسات نموذج على ذلك. وزير البلديات السابق، د. عبد الرزاق الطبيشات، كان مصدوما ويعتقد ان مؤامرة كبرى حيكت ضدّه. وقد صوت مجلس النواب ضد إحالته إلى القضاء، فلم يكن ذلك دليلاً كافياً على براءته. وأحيل بقية الأظناء من كبار الموظفين إلى القضاء، ومن بينهم د. إبراهيم نسور، مدير عام بنك تنمية المدن والقرى، الذي صدم معارفه واصدقاؤه وهم يرونه نموذجا للنظافة والنزاهة.
ولنتخيل أي عذاب عانى منه الرجل موقوفاً عن العمل، طوال عامين من عمر القضية، حتى صدر قرار محكمة الجنايات الكبرى في حزيران الماضي ببراءة الجميع معتبراً أنه لا يوجد قضية اساسا. وتعزز القرار قبل يومين بتأييد التمييز لحكم البراءة.
توقيف رئيس جامعة البلقاء التطبيقية وزملائه نموذج آخر على الإشكالية. فقد كان مُحرجا وصادما توقيف وسجن رئيس جامعة وآخرين من كبار الأساتذة أو الموظفين، برغم أن الرأي العام رأى في القرار جرأة وحزماً، ثم أٌُطلق سراحهم وأُلغي قرار وقفهم عن العمل، بل وتجديد عقد رئيس الجامعة لأربع سنوات قادمة، وكان الانطباع أن الملف أُغلِق، وهو ما نفاه رئيس هيئة مكافحة الفساد، مؤكداً أنّ القضية تمضي في مسارها الطبيعي وستكون قريبا بين يدي القضاء.
وفي نهاية الشهر الفائت، تم توقيف رجل الأعمال، وصاحب قناة سفن ستار الفضائية، السيد قاسم ارشيد، من مدعي عام مكافحة الفساد، ليعاد إطلاق سراحه من النيابة العامّة.
حملت نفسي إلى رئيس هيئة مكافحة الفساد، عبد الشخانبة، وقلت له انني آتٍ بمهمّة معاكسة، لما يطلب منكم عادة، أي الضرب "بيد من حديد" على الفساد. فأنا أخشى أنكم تندفعون بأكثر مما يجب في استخدام حق التوقيف، إذ يبدو أن التروي هنا مطلوب بأضعاف ما في القضايا الأخرى، بسبب السمعة المشينة وحكم "الإعدام المعنوي" تقريبا، الذي يلحق سلفا بالمعنيين.
طبعا كان لدى الرجل الكثير من الكلام الموضوعي عن مهمّة الهيئة وعن المبررات القانونية في هذا الإجراء، بما لا يتسع المجال لتناوله هنا، وايضا توضيحات عن القضايا المشار اليها آنفا التي لا يجوز الحديث بها وهي عند القضاء.
المهم أنّ الإشكالية قائمة، ويجب التفكير بها، بعيداً عن التدخل في تفاصيل القضايا وحيثياتها.

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

جميل النمري  صحافة  جريدة الغد