قبل عدة أعوام، نشرت مجلة "فورن أفيرز" مقالاً حول القضية الكردية حاكى هواجس الشعب الكردي وطموحاته. تحدّث المقال عن الظلم الذي تعرض له الأكراد على مدى العصر الحديث. وأشار إلى محاولات طمس هوية ذلك الشعب الذي عانى للحفاظ على ثقافته وحضارته.
 اللافت في ذلك المقال لم يكن في ما تصدى له من قضايا. أهمية المقال مردها أنه كان نشر لأول مرة قبل أكثر من نصف قرن. الرسالة من إعادة نشر المقال كانت أن لا شيء تغير في واقع الأكراد منذ إعادة الغرب رسم خريطة الشرق الأوسط في بدايات القرن العشرين وتوزيع المناطق الكردية بين عديد دول إقليمية.
 كان ذلك قبل سقوط ديكتاتورية صدام حسين. وتغير الكثير مذ ذاك. حقق الأكراد حكماً ذاتياً مستقراً في إقليم كردستان في شمال العراق. وتبوأ كردي، هو جلال الطالباني، رئاسة الجمهورية العراقية. وتمثل الأكراد في برلمان العراق وحكومته.
 ويقف الأكراد اليوم، رغم طموحاتهم في الاستقلال، عامل توحيد لا عامل تفرقة في العراق. سياساتهم المعلنة هي البقاء ركنا من أركان عراق ديمقراطي فيدرالي موحد لا تمييز فيه على أساس عرق أو دين.
 بقاء الأكراد على هذه السياسة رهينة تعامل بقية العراقيين والعالم العربي معهم. فالأكراد، رغم أنهم شعب ذو ثقافة وهوية مستقلة عن العرب، قريبون إلى العرب في الإرث الحضاري. هم مسلمون كانوا على مدى التاريخ الإسلامي أحد روافد الحضارة العربية الإسلامية التي احترمت التعددية فأسهم من لم يكن عربياً في بنائها والحفاظ عليها. وقاد صلاح الدين الكردي معركة تحرير القدس وهزم الاستعمار الصليبي للمنطقة.
لكن الأكراد ظُلموا في العراق تماماً كما يُظلمون في تركيا وسورية وإيران. محاولة طمس هويتهم وقتل ثقافتهم أيقظت نزعة استقلالية عندهم كانت دفاعاً مفهوماً ومشروعاً عن الحق في البقاء وعن الوجود. ستزداد هذه النزعة كلما بقي التعامل معهم على أسس إقصائية تشكك في خصوصيتهم الثقافية وحقوقهم السياسية. لكن منطق البقاء في إطار الدول التي تقع مناطقهم فيها سيفرض نفسه مصلحة لهم ولهذه الدول إن حصل الأكراد على حقوقهم كاملة مواطنين لا تمييز ضدهم ولا نكران لإرثهم الحضاري ولميزتهم القومية.
 لكل فعل ردة فعل. وكانت ردة فعل الأكراد على ما تعرضوا له من ظلم تاريخي الانكفاء في حدود هويتهم القومية. إقناع الأكراد بأفضلية الهوية الوطنية على الهوية القومية يتطلب قبولاً بهم غير مشروط شركاء في الأوطان التي يسكنون منذ آلاف السنين. ويتطلب ذلك أيضاً حكم هذه الأوطان بنظم ديمقراطية تحترم خصوصياتهم في إطار تعددي يعطي كل ذي حق حقه ويبني على الجوامع ويحترم الفروقات.
الأكراد شعب تتجاوز أعداده الملايين. أي محاولة لإلغاء خصوصيته ونكران حقوقه ستقوي النزعات الانفصالية وستبني جدران العزلة وحتى العداء بينهم وبين مواطنيهم في كل الدول التي يشكلون جزءاً رئيساً من أهلها. لكن الاعتراف بخصوصية الأكراد واحترام خياراتهم سيعظم القبول المتبادل وسيقوي محاججات أفضلية الوحدة على الانفصال. يحتاج الأكراد العرب. ويحتاج العرب الأكراد. ولا مصلحة لأي من الطرفين في تعميق النزعات الإقصائية أو الرافضة للآخر.
 بيد أن الوحدة التي تدوم هي الوحدة الاختيارية المبنية على الاقتناع والمرتكزة إلى منظومة سياسية وقانونية واضحة وعادلة. تجارب الاتحاد السوفييتي ويوغوسلافيا السابقين تثبت أن القوة والإكراه يفرضان الوحدة لكن لا يصونانها.
 بقاء العراق موحداً مصلحة للعرب وللأكراد في آن. لا فائدة إلا لأعدائه في تقسيمه وتمزيقه. لكن عماد هذه الوحدة يجب أن يكون إيماناً راسخاً بحتمية احترام تعددية العراق العرقية والمذهبية وجعلها عامل إثراء لا عامل صراع.
عراق صدام وما قبل صدام لم يحقق ذلك. عراق الغد يجب أن يكون مبنياً على الديمقراطية والعدالة والتعددية فيكون البقاء ضمنه خياراً للأكراد يدافعون عنه كما العراقيون من أصل عربي.

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  ايمن الصفدي   جريدة الغد