قال لي أنه قرر إحالة قلبه الى التقاعد المبكر، ثم ضحك فجأة، معدلا صيغة القرار: لا هو تقاعد معلولية، بعد أن ثبت أنه يعاني من عجز زاد عن الخمسين في المائة

سألته عن سبب هذا القرار الفجائي، وكان في وقت سابق يتباهى بأن له قلبا شابا، نابضا بالعنفوان، لا يعترف ولا يشعر بسنوات عمره الخمسينية، رغم أنه «يتمتع» بعلامتين من علامات الشيخوخة: الشيب وألم الظهر، وتذكرت حينها رواية كان جاء على ذكرها خطيب جمعة، إذ قال – بغض النظر طبعا عن مدى صحتها - أن أحد الأنبياء طلب من ملك الموت ألا يقبض روحه إلا إذا أنذره برسول بين يديْ الموت، إلا أن ملك الموت جاءه «فجأة» كما اعتقد، وقبل أن يقبض روحه احتج قائلا، أنه لم يبعث له بالرسول، فقال ملك الموت: بلى، جاءك رسولان، لا رسولا واحدا، فسأل: من هما؟ قال: الشيب وألم ظهرك

قال لي صاحب، بعد أن سرح ببصره إلى البعيد: قررت أن أنتحي ركنا قصيا في هذه الحياة، وأعتزل مباهج الحياة، ومتعها، فلم يعد لي من مطمع فيها، لأنني أخرج من كل تجربة بجرح جديد، حتى أنني بت أشعر أن قلبي يشبه جسد خالد بن الوليد، الذي قال عنه أن كل جزء منه لا يخلو من طعنة برمح، أو ضربة بسيف، أو جرح بخنجر، وها هو يموت على فراش الموت، كما يموت البعير

استزدت من بوح صاحب، فلم يقنعني كلامه على نحو يُسكتني، فقال لي، يا صاحبي، بصراحة، لا يوجد أصغر من عقل رجل يصدق امرأة، أو امرأة تصدق رجلا، أشعر أن منظمة كاملة من العلاقات البشرية تنهار أمامي مرة واحدة، الربيع العربي، لم يُصب منظومة الحكم في بلادنا، يبدو أنه تسلل إلى كل البِنى الاجتماعية والعاطفية، والغرامية أيضا، وبدأنا صفحة جديدة في حياتنا، ملونة بألوان هذا الربيع، ألم تقرأ عن تغير مزاج مدمني المسلسلات العربية، كيف كسد سوقها، وانصرف المشاهدون، إلى متابعة مسلسل الثورات والانتفاضات والاعتصامات، عوضا عن المسلسلات؟ ألم نشهد نشوء منظومة فنية جديدة، وأدبيات متنوعة، كلها تنشغل بأهازيج الجماهير ورسومات فنانيهم، في ساحات الاعتصام، ودواوير وميادين التحرير؟ وقلبي يا صديقي ليس استثناء من هذا التغيير، فهذا الزمن زمن حرب لا زمن حب

قلت لصديقي، أنه ينظر إلى المشهد من زاوية واحدة فحسب، وذكّرته ببيت عنترة الشهير:

فوددت تقبيل الرماح لأنها لمعت كبارق ثغرك المتبسم

وذكّرته أيضا بمقولة شهيرة لمفكر نسيت اسمه، أن الثائر الكبير هو بالضرورة عاشق كبير وقلت له أن الحرب لا تمنع وجود الحب، بل إن الحب محرك قوي لإشعال نار الحرب، وثمة حروب كثيرة أشعلتها علاقات حب، ثم إن الحب لن ينتهي من هذه الدنيا إلا مع نهاية الحياة

أسكتني فجأة، ووقف وقد بدا عليه التبرم والضجر من كلامي، وقال لي مغادرا، لا يلوي على شيء: فتحت راسي بكلامك، أنا أصلا، سأقطع علاقتي بك أيضا، كما قطعتها مع سواك، ويبدو أنني سأحيل نفسي كلي، لا قلبي فقط، على التقاعد المبكر، بعد أن..

مللت تكاليف الحياة ومن يعش.. (خمسين لا ثمانين) عاما لا أبا لك يسأمِ.


المراجع

addustour.com

التصانيف

صحافة  حلمي الأسمر   جريدة الدستور   العلوم الاجتماعية