تموت الشعوب حين تحاصر الفكر وتستحيل رهينة ديكتاتورية عقائدية تنبذ الاختلاف وترى الى التعددية بعين الريبة والتخوين. والتقوقع في التغاليف العقائدية المغلقة تعبير عن ضعف تكويني لا يقوى على مواجهة ضده فينشد الحياة عبر تدنيس هذا الضد ورفضه شراً مطلقاً.
هذه هي حال الاحزاب السلطوية العربية التي تتقنع أوجها تدعي الوطنية والقومية وتعتمد في بقائها على آليات رفضوية عمادها الخطابية المُزايِدة، دوماً، في كل شيء، وعلى كل آخر.
وفي بيئة غاب عنها الإنجاز الحضاري وحاصرها اليأس تفنّنت هذه الأحزاب في أخذ الخطابية الى اعماق لا قيعان لقدرتها على تجميد العقل. ونجحت في مسمرة مئات الآلاف في خشبية استعراضات لغوية ضيقة خانقة مغرقة في الاستبداد عاجزة عن الحياة من دونه.
وأضفت هذه على ضلالاتها قدسية استمدتها من قضايا وطنية ادعت نذر نفسها لخدمتها رغم أنها كانت أكثر المضرين بها.
والفكر يصير كفراً حين يصطدم بالمقدس. لذلك بات التلحف النفعي الزائف بقدسية الأوطان والدين عاملاً مشتركاً بين عديد الاحزاب المتسلطة التي تخشى نور الانفتاح والديمقراطية والاستنارة الحضارية فتحاصر دولها وشعوبها في عتمة قمعها واستبدادها.
وصلت بعض هذه الاحزاب السلطة وتحكمت بمصائر الملايين. فوقفت حائلاً دون التحضر وقاعاً من الانحطاط الفكري والقومي لا يفقه الا الخطابة غير المنسجمة مع فعل ولا يملك الا الرفض المعتمد أدوات القتل منهجاً للحكم أو للحياة.
دمرت بلاداً. وتهدد سياساتها بتدمير أخرى. سجون من في السلطة منها مكتظة بالوطنيين والمفكرين الذين تمردوا على عتمة استبدادها في الآن الذي ما تزال أبواقها تهرطق بالخطابية ذاتها التي تكسرت ألف مرة على محطات الفشل التي أنتجها.
فالبعث يبقى يحتكر لنفسه قدسية المقاومة التي صارت "ممانعة". ولا يفهم أحد كيف يمانع. فقد وقف يتفرج حين شنت إسرائيل عدوانها على لبنان. و"احتفظ بحق الرد" حين اخترقت الطائرات الإسرائيلية اجواء بلاده فحلقت فوق قصر رئيسه حينا وغارت على منشآت حيناً آخر. وهو يريد السلام على ذات الأسس التي تشترطها دول عربية طالما خوّنها!
لكنه رغم كل ذلك "ممانع". ويبدو أن هذه "الممانعة" لا تتجلى الا في اعتقال رجال فكر جريمتهم أنهم أرادوا حكماً رشيداً يسود في ظله القانون ويكسر عتمة القمع. ويبدو أن "الممانعة" أيضاً تبرر سجن حوالي مئتي أردني وآلاف اللبنانيين من دون محاكمات بل من دون توجيه تهم لهم.
ويغرق هؤلاء "الممانعون" في غياهب احتكار الحقيقة. من لا يتفق مع كل ما يفعلون ضدهم. النقد كفر. والاختلاف في الرأي ضلالة. التاريخ يبدأ معهم والمستقبل يسير على الدرب التي رسموها منفردين. واجب الآخرين الطاعة فإن طلبوا حقاً في المشاركة في رسم الدرب صاروا خونة ملعونين.
لم تعد الوطنية تعني تقديم الوطن على كل غيره. صارت الحاقه بأجنبي يلتقي مع أحد أحزابه.
وبات إلغاء الآخر حقا مستمدا من قدسية مزعومة. تجذّرت الالغائية منهجاً تسلل الى الثقافة الجمعية العربية. الايديولوجية تنتصر على رحابة الفكر، وتجعل من التعددية ضلالة.
وهذه رداءة لا تنبئ بنهضة ولا تبشر بحياة.
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة ايمن الصفدي جريدة الغد