يقول أحد القراء الذي مارس حقه الانتخابي مرتين في السابق إنه لن يدلي بصوته في الانتخابات النيابية القادمة بعد أن أحبطه أداء مجلسي النواب اللذين شارك في انتخاب أعضائهما. ويعتبر قارئ آخر عجز مجلس النواب عن إنتاج قيادات وطنية سبباً وجيهاً لعدم المشاركة في الانتخاب.
هذان رأيان يعكسان انطباعاً سائداً في المجتمع. وهما مؤشر خطر على تراجع ثقة الناس بالمؤسسات العامة. وهذه حال تضعف ارتباط المواطنين بالدولة واعتمادهم عليها في معالجة همومهم وتحقيق طموحاتهم.
فثقة الناس متدنية ليست بمجلس النواب فقط. الناس لا يثقون بالحكومة أيضاً. وثمة تغيير جذري في نظرة الناس إلى مؤسسات الدولة خلق حالاً من العزوف عن العمل العام وعدم الإيمان بجدوى المشاركة في الانتخابات أو التفاعل مع القضايا العامة.
وتلك معضلة يتطلب علاجها جهداً مؤسساتياً متكاملاً ومتواصلاً ومبنياً على قراءة عميقة موضوعية تعترف بالخلل وتحدد المسؤولين عنه وتسعى لإيجاد حلول مقنعة له.
وهنالك قدر كبير من السذاجة في الاعتقاد بأن معالجة هذا الخلل الجوهري في الأداء العام أمر يتم عبر قرار أو خلال فترة زمنية قصيرة. فاقتناعات الناس التي تستحيل جزءاً من ثقافة عامة سائدة تترسخ ببطء، وتتغير ببطء أكثر حتى لو زالت كل الأسباب التي شكلتها.
وفي نظرة المواطنين إلى العمل الحزبي دليل على ذلك. فما يزال الناس يخشون الانخراط في العمل الحزبي بعد أكثر من عقدين من ترخيص الأحزاب التي كان الانتماء اليها في الماضي سبباً للمحاصرة والعقاب.
لكن الصعوبات التي ستعصف بالبلد إن ظل الناس على عدم ثقتهم بالمؤسسات العامة أشد بكثير من تلك التي سترافق جهداً حقيقياً لإعادة بناء العلاقة بين المواطنين ومؤسساتهم.
ومفتاح الحل في يد السلطة التنفيذية التي ما تزال الطرف الأقوى في معادلة الحكم. استثمار الحكومة في تقوية السلطة التشريعية عبر احترام دورها والاسهام في تحسين أدائها وظروف انتخابها واجب قانوني واخلاقي ودستوري على الحكومة التي يجب أن لا تغلب الاعتبارات الآنية على المصالح الاستراتيجية للبلد.
و"الراحة" التي تحصل عليها الحكومة وهي تعمل مع برلمان ضعيف ستؤدي، حتمياً، إلى إيجاد ظروف لن يرتاح فيها أحد، لا الحكومة ولا المواطن.
ولا مجال للتلكؤ في معالجة أزمة الثقة بين الناس ومؤسساتهم العامة. العمل على تجاوز هذه الأزمة يجب أن يبدأ بشكل فوري عبر اجراءات تضمن لكل مؤسسات الدولة صلاحياتها وتوجد البيئة التي تسمح بنضوج جميع السلطات. وتشمل هذه الاجراءات تعديل قانون الانتخاب، ووقف تغول الحكومة على البرلمان، وإطلاق إصلاحات اجتماعية وسياسية واقتصادية تشجع الكفاءات الوطنية على الترشيح لمجلس النواب والناخبين على التصويت للأكفاء، لا للأكثر قرابة، وتدعم تطور الاحزاب البرامجية القادرة على العمل الشعبي المنظم.
ولأن تغير نظرة الناس إلى العمل العام تستوجب تغير قيم باتت جزءاً من ثقافة جمعية، يجب أن تعود الجامعات ساحات فكر رحبة لا أن تظل مدارس ابتدائية تضيق الآفاق وتدفع الشباب نحو العزلة السياسية وتعلمهم الطاعة لا التفكير النقدي المبدع. وما ينطبق على الجامعات ينطبق على المدارس التي تخلو مناهجها من التثقيف الديمقراطي والسياسي فأسهمت بذلك في خلق جيل غريب عن قضاياه وغير معني بالعمل العام.
أزمة الثقة بين الناس ومؤسسات الدولة حقيقة. ولا شيء غير الإصلاح الحقيقي، سياسياً واجتماعياً واقتصادياً، قادر على حلها.

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  ايمن الصفدي   جريدة الغد