ستضاء الشموع في بيروت غدا. لن تحول الأحداث الجسام التي تعصف بها من دون استذكارها شهيدها . فمدينة كمثل بيروت لا تنسى من قضى محاربا من أجل حماية روحها، المتمردة دوما على ضيق الفكر وقيود السياسة، ممن أرادوا سجنها في قيعان قمعهم وترويضها على قياس محدودية آفاقهم.
ستتذكر بيروت سمير قصير غدا.
وسيطلق الاستذكار أسئلة حائرة. أقضى عبثا، هو الذي حلم أنه يمكن للفكر أن يكسر عتمة السياسة ؟ هل كان حالما حد السذاجة إذ ظن أن القلم أقوى من البندقية وأن إرث لبنان المجبول على الانفتاح على الحياة قادر على قطع طوق الموت الذي غلف راهنه؟
ربما. أو على الأقل هذا ما توحيه اللحظة بعد ثلاث سنوات من تغييب سمير صباح صيف غادر في المدينة التي أحب. فربيع بيروت لم يثمر الاستنارة والحرية والديمقراطية التي آمن بها سمير حقا لمواطنيه. ولبنان لم يستعد دوره استثناءً مشعا في محيطه المظلم. طبائع الاستبداد التي ثار عليها سمير بفكره ما تزال تقهر نزعة الحياة. الجمهورية، قيما ونظاما، تترنح أمام غزو دعاة الأحادية الثقافية والسياسية فباتت في كثير من أوجهها فعلا مفقودة. ولا جواب عن سؤال سمير الهاجس "عسكر على مين؟" يوقف القلق على مستقبل بيروته.
حالما كان سمير. وما كان يمكن إلا أن يكون. ذاك أن الحلم سمة المفكر المستنير الذي بقيه طيلة سنين عيشه القصيرة. لم يكن سمير سياسيا يفصّل مواقفه على قياس المتاح أو المباح. كان صاحب مشروع ثقافي فكري يرفض أن تحاصر الحياة بسقف يفرضه ضيقو الأفق ممن سادوا على لبنان في غفلة زمن الانحطاط اللبناني والعربي. فمن ينشد النهضة حقا حياتيا ومخرجا من متاهات التخلف التي صارها عالم العرب لا يستغني عن الحلم نبع قوة يتدفق عزيمة تشق طريقها نحو النهضة غير آبهة بصخور القمع التي تكدست لسدها.
وسمير طالما قال إن الشعوب بحاجة لأساطير تأسيسية تتفاعل حافزا جامعا لبناء الأوطان. وقد يكون إيمانه الجامح بحتمية تثمير آذار بيروت عهدا جديدا يعيد لبيروت بريقها الديمقراطي، ويقدم للعرب الأنموذج الحضاري الذي عزّ، أسطورته التي نسجها حاجة لامتلاك قوة القفز فوق قتامة اللحظة إلى رحابة مشهد اكتملت في مخيلته ملامحه لبنانا حرا مستنيرا ينبض بالحياة لا بالموت، يحتفل بالكتب لا بالنعوش، وينفتح على الفكر لا ينغلق داخل فرمانات عقائدية.
غيب سمير وهو يعتقد أن تحقيق حلمه كان قاب قوسين. هل كان سيظل يحلم لو عاش ليرى تقهقر ثورة الأرز أمام جحافل الأحادية والإلغائية التي عادت لتمتد فوق بيروت تحاصرها؟ أجزم بذلك. لن يكون هو إذا لم يفعل. فهو الذي حفظ تاريخ بيروت كمن لا سواه، وعرف أن الحياة تظل من الموت ومنظريه أقوى. وعلى أية حال فها هي بيروت، رغم الحصار الجديد، تستحضر إيمانه وفكره تمسكا بحقها في الحرية وفي النهضة وفي أن تعيش، تقول إن ثمة من ما يزال يحلم.
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة ايمن الصفدي جريدة الغد