ثمة سجال سياسي مقلق في المملكة. ومرد القلق أن هذا السجال المتوتر يدور بين مراكز رئيسة لصنع القرار في المؤسسة الرسمية ويعكس، في الحد الأقصى، صراع قوى بين مؤسسات يجب أن تتعاون على خدمة البلد وفي الحد الأدنى غيابا للانسجام الذي يجب أن يتوافر بين الشركاء في حمل المسؤولية الرسمية في مرحلة قد تكون بين الأصعب على الأردن سياسيا واقتصاديا.
الوضع مخيب. والناس في حيرة يتساءلون إلى متى ستبقى مراكز صنع القرار مستنفدة في معارك سطوة بدلا من أن تجمع جهودها لتخدم الشعب الذي وصل حد الاشمئزاز من المماحكات التي لا ترد عنه ضررا ولا تستجلب له خيرا وهو يحارب من أجل لقمة العيش وتحسين معيشته وضمان مستقبل أبنائه.
الأردن يستحق أفضل من الخدَمة العامين (وأصر على استعمال هذا المصطلح لأن كل من تبوأ موقعا عاما هو خادم للشعب ومسؤول أمامه لا عليه) الذين يديرون شؤون البلاد والعباد. لم يعد مسموحا أن يظل شاغرو المواقع الرسمية يتقاتلون على الصلاحيات وكأن الأردن بلد ولد في الأمس ولا يملك تقاليد وقوانين ودستورا تحدد كيفية إدارة الدولة. فاستمرار هذا الضياع يوسع الفجوة بين الشعب ومؤسسات الحكم ويهدد استقرار البلد ويكسر محرمات وينذر بفوضى، المملكة وأهلها بغنى عنها.
يستطيع الرسميون إنكار وجود صراع صلاحيات لكن أحدا لن يصدقهم. وعليهم تقع مسؤولية إخراج البلد من هذه الأجواء المقيتة عبر التنافس على خدمة البلد وشعبه وملكه لا التقاتل على النفوذ. أما طريق الحل فهي بينة: العودة إلى الدستور مرجعية لا يتجاوزها أحد. فالمنظومة السياسية في الأردن ناضجة وقادرة على توفير الوضوح الذي تستوجبه إدارة الدولة لناحية تحديد الصلاحيات والواجبات. الغائب هو التزام هذه المنظومة. والخطر مكمنه إضعاف المؤسسات والعمل خارجها. ذاك أن الدول لا تدار خارج منظومة عمل توازن بين الصلاحيات والواجبات فيعرف كل دوره ويعرف أيضا أنه معرض لمساءلة قانونية وسياسية لا يحصنه ضدها شيء.
وليس سرا أن ضعفا ضرب مؤسسات الدولة. استطلاعات الرأي تشير بوضوح إلى أن الشعب لم يعد يثق بمعظم هذه المؤسسات، خصوصا الحكومة التي فقدت هيبتها نتيجة حتمية لضعف بعض ممن قادها أو توزر فيها، أو لممارسات سلبتها الكثير من صلاحياتها أو تنازلت عنها. صارت الحكومة في نظر الناس جسما ضعيفا لا حول له ولا قوة. وحتى لو لم تكن هذه الصورة صادقة، فالانطباعات في السياسة أقوى من الحقائق.
ضروري أن تستعيد الحكومة دورها وصلاحياتها الدستورية. وعليها أن تتحمل مسؤولياتها كاملة وأن تمارس الولاية العامة كما ينص الدستور ومن دون أي انتقاص لصلاحياتها أو تنازل عنها. وبعد ذاك تكون الحكومة، أيضا وفق الدستور، مسؤولة أمام جلالة الملك وأمام الشعب تحاسب إن فشلت في تنفيذ مهام محددة لها بوضوح وعلى أساس معايير قياس عملانية ليس من الصعب وضعها.
ذاك هو مسار إخراج البلد من الأجواء السلبية ومن الصراعات والمماحكات التي تمثل تدهورا لا مبرر له ولا داعي. فالأردن قصة نجاح لا يجوز أن تهتز بسبب ضبابية الصلاحيات. وجلالة الملك صاحب رؤية حضارية تطويرية تقدم مصلحة الأردن والأردنيين على كل آخر. جريمة أن تتعثر ترجمة هذه الرؤية واقعا بسبب القفز على قنوات العمل الدستورية والتشتت في صراع صلاحيات مدمر، وبسبب أجندات شخصية تسللت عبر أجواء الاحتقان السائدة لتكيل الاتهامات وتنتقص من المنجزات وتعمم الشخصنة معيارا للحكم على العام.
ثمة فوضى يجب أن تنتهي. والعودة إلى العمل المؤسساتي بات ضرورة. وإذا كان هنالك مشكلة في المؤسسات بسبب بيروقراطية متجذرة أو تفريغ الكفاءات، فالحل يكون بتقوية هذه المؤسسات ومعالجة اختلالاتها لا بتهميشها.
وبالنهاية فإن البلد يحتاج أن تتعاون كل مؤسساته وقياداتها لخدمته. لكن الوصول إلى الدرجة المطلوبة من التعاون يتطلب، شرطا، تحديد المهام والصلاحيات على أساس النصوص الدستورية والقانونية التي توفر وضوحا لا يسمح بضبابية نتائجها بكل المعايير على البلد كارثية، بحيث تكون الولاية العامة للحكومة والسيادة للدستور، ويكون التقويم على أساس الإنجاز لا على أساس الطموحات الشخصية والتمترسات الضيقة التي تبنى في عتمة غرف مغلقة تبث السموم في البلد.
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة ايمن الصفدي جريدة الغد