هناك سياق مفهوم لنشوء معسكر 14 آذار، ولوجود جنبلاط فيه حتّى خطابه الأخير في مؤتمر الحزب التقدمي الاشتراكي، عندما انقلب فجأة على حلفائه وسط ذهولهم وإحباطهم التام. موقف جنبلاط يبدو طعنة مفاجئة في الظهر وخيانة لحلفاء القضية والدم المشترك، وأيضا لصناديق الاقتراع والتفويض الشعبي الذي صنع الأغلبية وهو قطب مركزي فيها.
تحالف 14 آذار لم يكن تحالف "الضرورة" كما قال جنبلاط، بل أنبل ظاهرة في التاريخ اللبناني، إذ دخلت الطوائف في وحدة حميمة معمدّة بالدم والتضحيات، تظللها الوطنية اللبنانية ومبدأ الاستقلال وانهاء الوصاية والهيمنة.
حتّى حزب الله لم يستطع معارضة مبدأ انسحاب الجيش السوري، لكنه قال: نودعهم بالشكر وليس بالشتائم. كان جنبلاط يرضي ضميره أيضا فحقبة الهيمنة السورية افتتحت باغتيال والده الشهيد كمال جنبلاط، وعن تلك الحقبة قال: إن أصعب موقف في حياته أن يجد نفسه جالسا على مائدة عشاء ويجامل كصديق من يعرف أنه قاتل والده.
في 14 آذار كان جنبلاط صاحب اللغة الأكثر انفعالا، وهذا جزء من شخصيته، وهو بالعادة يعبر عن ذاته بطريقة صريحة وصادمة بالنسبة لسياسي في موقعه. وفي ذروة الاغتيالات التي اجتاحت لبنان كان الأكثر تأثرا وغضبا، ولم يتردد في الاستنجاد بأميركا لضرب سورية والتلويح بأعمال إرهابية في سورية نفسها.
لم يكن تحول وليد جنبلاط مفاجئا تماما، فقد بدأت علاماته مبكرا وربما كانت أول إرهاصاته صدمة اجتياح حزب الله لبيروت في 7 أيار 2008 صعودا الى الشوف، ووقتها صرح جنبلاط أنه يضع نفسه "في حماية حسن نصرالله"!
ثم جاءت هزيمة إدارة بوش عدوة النظام السوري، ومجيء اليمين المتطرف في إسرائيل وغزل الغرب والعرب مع سورية، ولعلّ جنبلاط انفعل بالتطورات وبالغ في تقييمها ورأى مصلحة طائفته في استباقها وإعادة التموضع السياسي، وهو بدأ يأخذ مسافة عن حلفائه في عدّة مناسبات (نشرت المعارضة تسجيلات له خلال حملة الانتخابات غير ودّية بحق السنّة والموارنة) لكن الانقلاب الكامل على معسكر حلفاء الأمس كان صادما، ولا ندري كيف أن الأذكياء الأكفياء في حزبه أمثال غازي العريضي هضموا هذا الانقلاب! ربما كان لهم دور في فرملته خلال الفترة الماضية وحتّى المؤتمر. وفي التصويبات والتطمينات تجاه حلفاء الأمس. وقال جنبلاط: إنه يبقى وفيا لصديقه الحريري ودم والده، لكنه يرى التموضع في منطقه وسط بين المعسكرين.
أستذكر أن الكتابات الصديقة لحزب الله وحلفائه شنّعت في حينه على جنبلاط ومسخرته، وعلى الأرجح لن تفعل ذلك مع انقلابه الجديد، والتشنيع والاغتيال المعنوي حتى لشخصية مثل جنبلاط ليس عملا محترما. فهو ليس أراجوزا بل قائد مقدّر، وذو شأن ويعمل وفق رؤية وحسابات، وفي تقديري أنه بسّط الحسابات المركبة للسياسة الأميركية والتحولات في الوضع الإقليمي والدولي.
لن يقف أحد ليساوم على المحكمة الدولية، لكن السياسة اليومية لا تنتظر مسارها الطويل والإدارة الأميركية الجديدة لا تحمل هراوات، بل موقف وسياسة. ولعل هذا أفعل لترشيد سلوك الأنظمة ما دامت موجودة، ولعل سياسة هذه الإدارة ستكون أفضل وأفعل في ضمان أمن لبنان ومستقبله.
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
جميل النمري صحافة جريدة الغد