قرار جماعة الإخوان المسلمين بمقاطعة الانتخابات النيابية، يدلل على المدى الذي وصلت إليه علاقة "الجماعة" بالحكم لا بالحكومة فقط. منذ بداية التسعينيات ومع صعود "حماس" وتوقيع معاهدة السلام الأردنية الإسرائيلية، بدأ الشرخ وأخذ يتعمق، وهو يصل اليوم إلى الذروة، بقرار الصعود الى شجرة المقاطعة، ولا أمل في سلم او مساعدة في النزول.
ولدت "الجماعة" وترعرعت في حضن النظام، وتبادلا معا المنفعة، وكان بينهما انسجام سياسي واجتماعي وثقافي، خاصة في مرحلة الأحكام العرفية وتبعاتها.
لكن منذ صعود "حماس" وتوقيع معاهدة السلام، سارت العلاقة بين النظام والجماعة نحو التباعد، واستقرت اليوم في حالة "التخندق"، وانقطاع الحوار العلني والسري، وتوقفت الصفقات. لقد تغيرت قواعد اللعبة.
والجماعة تسعى لاعتراف جديد بها وبدورها وبخياراتها وتحالفاتها الجديدة داخليا وعربيا واقليميا.
انتهت سنين العسل بين النظام والجماعة، حيث الدلال والامتيازات، وحلت محلها سياسة "المعاملة بالمثل".
قرار المقاطعة، قرار "ناشز" في المسار والسلوك "الإخواني" المألوف الذي يحمل درجة عالية جدا من البراغماتية، حد شبهة الانقلاب على "الثوابت" ونزعة تبريرية تمرر كل مرغوب.
انخراط "الجماعة" بالعمل السياسي العلني منذ بداية التسعينيات، ووجودها تحت الرقابة الشعبية والسياسية والإعلامية، أضعف من قدرتها على التمويه والمواربة، وأصبح من غير الممكن تمرير الصفقات على القواعد الإخوانية والشارع. ومع تنامي واتساع الهوة السياسية وتموضع "الجماعة" في خندق مقابل "وحضن بديل"، أصبح من المتعذر أن تتقبل قواعد "الجماعة" الدور التقليدي للزعماء التقليديين زعماء مرحلة "الحضن الدافئ".
زعامات "الجماعة" الجدد من طينة جديدة، يريدون من النظام الاعتراف "باستقلال" الجماعة عن النظام والتعامل معها والاعتراف بقوتها كطرف مستقل، وكما هو، وليس كما يجب أن يكون.
لم يتهاون النظام مع نزعة "التمرد" هذه، فجاء الرد بالسحب التدريجي للامتيازات والتهديد بسحب الامتياز الاكبر وهو الوجود غير القانوني "للجماعة".
المشكلة لا تكمن في الانتخابات النيابية بحد ذاتها، والجماعة لا تخفي ذلك، وهي تشير بوضوح إلى العلاقة البينية "ومقاطعة" الحكم لها، فقد شاركت "الجماعة" في الانتخابات النيابية الماضية بالرغم من كل "البلاوي" التي حصلت في الانتخابات البلدية التي سبقتها بأشهر قليلة. والأهم انهم قبلوا بنتيجة الانتخابات الماضية التي يقولون إنها مزورة من ألفها إلى يائها، وقبلوا بدور برلماني ذليل.
الصراع الداخلي المرير داخل "الجماعة"، ينعكس بقوة على سلوكها السياسي وتذبذب مواقفها السياسية وانتقالها من النقيض الى النقيض، من الإذعان لنتائج انتخابات "مزورة" إلى التحدي ومقاطعة الانتخابات استنادا إلى شكوك في النوايا.
لكل موقف سياسي ثمن، وأظن أن "الجماعة" لم تحسب جيدا ثمن المقاطعة. ويبدو لي أن الصراع والتوتر الداخلي الحاد، قد أعمى الجماعة وأفقدها القدرة على الحساب وأنساها "جدول الضرب".
كثيرون في الحكم ومن خارجه سيكونون سعداء بمقاطعة الجماعة للانتخابات، ومن سوء حظ "الجماعة" أن هناك إرادة سياسية عليا ملموسة، تدفع بإجراء انتخابات موضوعية، ليس فيها حجة ترتد سلبا على سمعة البلد وتماسك جبهته الداخلية.
حالة الشد والجذب بين "الجماعة" والنظام ستستمر وتتواصل، وستمر في محطات إحماء وتبريد، وستستقر مع استقرار التجربة الديمقراطية، بما تمليه من تحولات في السلوك والبنية عند الحكم وعند "الجماعة"، وربما لا يكون عندنا "جماعة" أصلا ويكتفى بوجود قانوني لحزب جبهة العمل الإسلامي، لأن سيادة القانون شرط استقرار ونضج التجربة الديمقراطية.
في ظل المعطيات الراهنة لا يُتوقع حوار يفضي إلى تفاهمات، ومقاطعة الانتخابات ستعقد الأمور أكثر، لأن النواب الاسلاميين كانوا دائما جسر الحوار وإيصال الرسائل والتفاهم "بالقطعة" ما دام التفاهم "بالجملة" متعذرا.
خلاصة ما يجري ليست في صالح الاستقرار السياسي والاجتماعي، والرد على المقاطعة بالمقاطعة ليس هو الحل.
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة بسام حدادين جريدة الغد