لم يكن مجلس النواب في دورته الاستثنائية المنصرمة هو ذاته مجلس النواب الذي عرفناه في السنة الاولى من عمره: مجلس مطواع، منضبط الايقاع. فقد ظهر المجلس في الدورة الاستثنائية، وكأنه مجلس نواب جديد.
غياب التدخل الرسمي أعاد خلط الأوراق وخلخل التحالفات وفجر الطاقات الفردية واعاد ترسيم العلاقة بين المجلس والحكومة على نحو مختلف.
انتفاضة داخلية حقيقية يعيشها مجلس النواب. يمكن وصفها بانتفاضة الاستقلال. لكنها انتفاضة فردية يغيب عنها الهدف والرؤية الواضحة. ويختلط فيها الذاتي على تنوعه مع السياسي على اطلاقه. فغدا المجلس وكأنه "فالت من عقاله"، وانعكس هذا كله على اداء المجلس وسلوك افراده، وهذا ما يفسر "المفاجآت" والتناقضات الصارخة في الاداء.
مسار المداولات والمناقشات والتصويتات، التي جرت اثناء البحث في مشروع قانون ضريبة الدخل، اظهرت بشكل صارخ حقيقة المتغيرات التي طرأت على المجلس، سواء في علاقاته الداخلية او في العلاقة مع الحكومة. فقد ذابت الكتل تماماً وتشكل بديلاعنها، تحالفات طبقية (مصلحية) عابرة للكتل، رفضت توافقات اللجنة المالية النيابية مع الحكومة وانقلب اعضاء من اللجنة المالية على توصيات لجنتهم التي وقعوا عليها.
وتمترس نواب المصالح خلف مصالحهم ودافعوا عنها بقوة، وكانوا اكثر النواب حضوراً ونقاشاً وفاعلية، ونجحوا غير مرة في تمرير رغباتهم وتعديلاتهم، على مواد حساسة مثل الضريبة على المقاولات وشركات بناء الشقق السكنية وشركات التضامن وغيرها.
وكان سبب هذه النجاحات وجود غيابات كبيرة من النواب عن جلسات التصويت فقد كان معدل الحضور لا يتجاوز 55%. أما التصويت على رفع الضريبة على البنوك وشركات التأمين والاتصالات، فله حكاية اخرى أساسها أن المجلس محقون بجرعات عالية من التعبئة باعتبار هذه المؤسسات يجري تدليلها على حساب القطاعات الاقتصادية الاخرى، وأنها عنوان لتيار الليبرالية الاقتصادية.
أما الموقف من إعفاء الزراعة من الضريبة فكان لنواب المناطق الزراعية دور فاعل ومؤثر في تحفيز نواب الريف والبادية لدعم ابناء مناطقهم المزارعين.
هكذا هاج وماج المجلس، فانفلت من عقاله، وقلب في مشروع القانون رأساً على عقب، حتى إن وزير المالية اعلن امام نواب بأن القانون لم يعد قانونه.
وزير المالية كان قلقاً للغاية على مصير القانون. وكان عاجزاً تماماً في التأثير على النواب، وظهرت الحكومة وكأنها غير موحدة ازاء القانون، تلوذ بالصمت، ولم تنجح في الدفاع عن مشروعها، لولا تدخلات متأخرة من مدير عام الضريبة.
سردت هذه التفاصيل كي اظهر المزاج العام للمجلس وتحرر أفراده من كل القيود وطبيعة علاقته مع الحكومة. صحيح أن لعبة المصالح طغت على غيرها، لكن ذلك لا ينفي الجنوح الى "الاستقلالية".
بموازاة ذلك، يستعد عدد من النواب المستقلين، وبعض الكتل، لاستثمار هذا المزاج النيابي "المنتفض" وتوجيهه نحو "الإصلاح والتغيير". وبدأت تظهر ملامح "تجمع" يستهدف خوض معركة رئاسة المجلس والمكتب الدائم، للارتقاء بعمل المجلس والنهوض بدوره الدستوري.
الأسابيع المقبلة ستشهد حراكاً نيابياً نشطاً، فقد تغير المشهد النيابي كثيراً.. ولا بد لهذه المتغيرات من ان تجد طريقها بشكل او بآخر على تركيبة المجلس الداخلية. لكن اليقين أن مجلس النواب لا يمكن أن يدار كما يدار في الوقت الحاضر. بغض النظر عن من يجلس على منصة الرئاسة. فعلى الحكومة أن تعي ذلك جيداً وأن تعيد النظر بطرائق عملها مع المجلس والنواب.
أختم بالقول: إنّ ما يجري داخل مجلس النواب هو حراك ايجابي، يجب حمايته من الذاتيات والأجندات الخاصة.. وتوجيهه نحو عمل نيابي مؤثر ومسؤول.
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة بسام حدادين جريدة الغد