يبدو ان الزيارة الملكية الى الجامعة الاردنية ولقاء جلالة الملك مع رؤساء الجامعات الاردنية اوائل شهر تشرين الثاني الماضي, قد فعلت فعلها وبدأت تعطي أكلها، فالكلام الحضاري والمستقبلي الذي تحدث به الملك, حرّك وشجّع القائمين على التعليم العالي واستنطقهم ورفع حماستهم ليعبروا عن القناعات الخاصة والعمل بهديها.
البداية كانت مع الصرخة المدوية التي اطلقها الأكاديمي والمؤرخ الاردني البارز، د. عدنان البخيت، حين أعلن أنّ "الجامعات الاردنية تحتضر"، فكانت جرس انذار من مختص يعرف واقع التعليم العالي في الأردن، كما يعرف كف يده، وهو الذي دفع موقعه في رئاسة الجامعة ثمناً لصدقيته واخلاصه لقناعاته.
وقد اعقب حديث البخيت الصريح سلسلة مقالات من مختصين سلّطت ضوءاً مبهراً على واقع التعليم العالي في الاردن وعلى البيئة الاكاديمية. ترافق ذلك مع اجتماعات استضافتها الجامعة الاردنية لرؤساء الجامعات الرسمية، كانت مناسبة للتقييم الشامل، نأمل ان يُسمعنا السادة رؤساء الجامعات خلاصات تقييمهم وخططهم التطويرية، فهي ليست ملكهم الخاص، بل هي ملك لكل مهتم بغض النظر عن موقعه وخلفيته.
الصرخة المدوية الثانية جاءت الخميس الماضي (30/10) اطلقها د. خالد الكركي، رئيس الجامعة الاردنية، امام حشد كبير من طلبة واساتذة الجامعة في لقاء تاريخي بحق، اعلن فيه د. الكركي أزوف رحيل مرحلة الوصاية والتعيين في انتخابات طلبة الجامعة الاردنية وانطلاق مرحلة الحرية، بإعادة انتخاب "اتحاد طلبة الجامعة الاردنية".
وقد ألقى د. الكركي خطبة "ثورية" غير مألوفة من رؤساء الجامعات العبوسين، الذين ما يزالون يعتقدون ان تلقين العلم والمعرفة لا يتم الا من خلال حفظ بطون الكتب، ولم يعيروا اهتماماً للنشاطات اللامنهجية، ولحق الطلبة في تنظيم انفسهم وادارة شؤونهم بحرية واستقلالية.
د. الكركي خاطب طلبته بكل ثقة وعنفوان قائلا: "كونوا احراراً نجحتم ام لم تنجحوا, المهم ان لا تكونوا عبيداً".. يا الله ما اروعك ايها الاردني النبيل؛ فالحرية والكرامة.. قبل العلم والمعرفة..
ولمنح طلبته مزيداً من الثقة والتحفيز، أعلن أمامهم من دون تردد: " اذا حصل اي خلل في الحرية الطلابية سأنسحب من المشهد"، وكأنه يضمن هذا "الانعتاق" والتحرر من منطق الوصاية والتعيين، ودخول مرحلة الثقة بالذات وبالطلبة ابناء الجيل الصاعد قادة المجتمع والدولة في المقبل من الايام.
المفارقة أنّ وكالة الانباء الاردنية "بترا" لم تتطرق في نقلها لخبر لقاء د. الكركي للعبارات "الثورية" والتعبوية التي جاءت في خطبة د. الكركي وعتمت عليها، لأنها لا تليق بالعقلية المحافظة التي لا تتحمس لأي انتخابات في الدنيا، حتى لو كانت لانتخاب ملكة جمال العالم.
وبنفس الروحية المحافظة تعاملت بعض الصحف اليومية حيث حذفت من التغطية، اي كلام خارج "الكياسة" الموهومة، والتي تخفي خلفها شرطياً رقيباً يمشي خلفها كظلها. أما التلفزيون الاردني فهذا شأن لا يعنيه، فالتعبئة الديمقراطية شأن احزاب المعارضة!
وحملت خطبة د. الكركي توجيهات عصرية وتقدمية للطلبة ليصونوا التجربة ويحصنوها من امراض التعصب المقيتة.
هذا النموذج من "القادة" هو ما نفتقده في مؤسساتنا ليس الاكاديمية فقط، بل في الإدارة العامة والادارة السياسية للدولة. قادة يؤمنون بفكر الملك الاصلاحي، قولاً وعملاً، قادة متشبعون بروح العصر وبقيم الاصالة والحضارة العربية والاسلامية، قادة يؤمنون بالانسان الاردني، وبقدرته على صناعة حاضره ومستقبله بثقة عالية وانتماء وطني لا يتزحزح.
صرخة د. البخيت وخطبة د. الكركي بمثابة بداية مرحلة جديدة يجب أن تكون مناسبة لفتح كل ملفات التعليم العالي لنعيد له الثقه، فنرتقي بجامعاتنا الى مصاف الجامعات الرائدة بصفتها منارات للعلم وبيوتا للخبرة والرأي.. وكلمة السر التي لا يمكن البدء من دونها هي: الانفتاح والديمقراطية والحصانة.
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة بسام حدادين جريدة الغد