ظهر مجلس النواب يوم الاربعاء الماضي 30/8/2008 في اضعف صورة واكثرها هشاشة, وذلك اثناء لقاء رئيس الحكومة السيد نادر الذهبي, باعضاء مجلس النواب, بناء على طلبه لتقديم (إيجاز) عن إنجازات حكومته خلال السبعة اشهر الماضية من عمرها المديد على ما يبدو لي.
تحدث في اللقاء اكثر من خمسين نائباً, غالبيتهم العظمى كانت مفتونة امام الرئيس - حتى لا اقول مسحوقة - وكالوا له المديح والثناء, لمجرد انه تكرم وطلب اللقاء بهم, ليستعرض امامهم انجازات حكومته, وقد سمع الرئيس كلاماً وغزلاً لم يحلم ان يسمع بمثله رئيس حكومة في الاردن او ربما في العالم.
سمع الرئيس كلاماً في الشعر والنثر, يشيد بمكرمته من من مثل: أتيت مقبلاً لا مدبراً, لم يفعلها رئيس حكومة قبلك, الشكر للرئيس على هذه المبادرة الكريمة, هذا دليل ثقة بالنفس وبالإنجازات.. وقس على ذلك. كلام من هذا القبيل كان لأزمة بدأ فيها الغالبية العظمى من النواب كلامهم, وكأنهم دارسون على يد شيخ واحد, متمنين على الرئيس ان يكرر مثل هذه "المكرمة".
يا الله.. أين يأخذون مجلس النواب?!
ما الذي فعله رئيس الحكومة حتى يمجد كل هذا التمجيد, وبلغة فيها دونية من البعض. احدهم ذهب به الحماس حد القول لا لا اريد من الرئيس ان اصبح وزيراً ولا اميناً عاماً (!!!) وكررها ثلاث مرات, ليؤكد للمستمعين انه يعني ما يقول وليس في المر زلة لسان.
الرئيس قرأ مقتطفات من تقرير مطبوع (52 صفحة) وزع على الحضور اثناء دخولهم الى القاعة (!!), يتحدث التقرير عن قرارات واعمال واجراءات قامت فيها الحكومة في المجالات الاقتصادية والمالية والاجتماعية. جميع ما ورد في التقرير, سبق ان نشر في الصحف ووسائل الاعلام, وليس في التقرير اي جديد على الاطلاق. والاهم ان هذا التقرير الصحافي او الانجاز لا يتضمن اي حديث على الاطلاق عن السياسة الخارجية وهمومها او عن "انجازات" الحكومة في مجال الارتقاء بالحريات الديمقراطية وحقوق الانسان والتنمية السياسية.
هذا ما قدمه رئيس الحكومة في اللقاء مع النواب, تقريراً صحافياً كان يمكن ان يرسل عبر البريد.
وزاد المشهد درامية, ان طلب رئيس مجلس النواب الباشا عبدالهادي المجالي من الحضور ان يقتصروا مداخلاتهم على اسئلة محددة في المادة المعروضة امامهم وان لا تزيد المداخلة على دقيقتين الى ثلاث دقائق. وعندما تجرأ احد النواب وسأل عن "الأسرى الأربعة في قفقفا" اعتبر ذلك خروجاً عن مسار "المحاضرة".
وظل المشهد البرلماني ينحدر بمستوى احترامه للاعراف والتقاليد البرلمانية والدستورية, حد اقامة الحد على اصحاب الرأي الآخر وهي مقلة على كل حال ولم يعط اي منهم الكلام الا بعد ان تحدثت الغالبية العظمى من الحضور, وكأنه اريد حماية النواب من "تأثير الأفكار الهدامة". وذلك على عكس التقاليد البرلمانية التي تعطي الرأي والرأي الآخر. فرصاً عادلة في التعبير عن نفسها.
ولم ينغص على الحضور انسجامهم وتشاوريتهم وتواصلهم, سوى مداخلة كاتب هذه السطور, عندما تحدث وكان من العشر الأواخر من المتحدثين الذين جرى اختيارهم بطريقة انتقائية. تمنيت على رئيس الحكومة ان لا يكرر مثل هذا اللقاء في الشكل والمضمون, لانه يبهت الرقابة البرلمانية, ويحول النائب الى صحافي مؤدب يسأل ضمن الحدود ويحول اللقاء الى مؤتمر صحافي لرئيس الحكومة يخاطب الرأي العام من فوق رؤوس النواب. وقلت ان مكان هذا "الإيجاز" هو تحت القبة وبجلسة نظامية لمجلس النواب, تتاح فيه الفرصة للجميع وبوقت كاف لمناقشة السياسات المعتمدة وتقييم الاداء الحكومي على اطلاقه وعلى مختلف المسارات الداخلية والخارجية, واقامة الفرصة للاستحقاقات الدستورية للمساءلة.
وكان ان تدخل رئيس مجلس النواب على غير المألوف ليرد بأن التقرير سيحال الى لجان المجلس لدراسته وتقييم اداء الحكومة من خلاله (!!!). ولا أدري بأي سند او عرف برلماني. تأخذ اللجان البرلمانية الدائمة صفة مساءلة الحكومة. ومن أعطاها هذا الحق?! ثم.. عن أي مساءلة يجري الحديث وهذه اللجان تدار من قبل الأغلبية النيابية للحكومة!!. وهذه طريقة في العمل والتقييم يمكن أن تتم في برلمانات الدول الشمولية حيث النواب والحكومة من لون واحد.
المساءلة فعل سياسي, تقوم به الكتل والتيارات البرلمانية, بشكل مستقل, ولا يجوز اختصار المساءلة على ما ستقوم به الاغلبية الحكومية من خلال اللجان التي تسيطر عليها (الخصم والحكم), وهي لن تقوم بذلك على كل حال, ومثل هذا الكلام قيل مرات عديدة في السابق والنتيجة لا شيء.
رئيس الحكومة وجد في مداخلة رئيس المجلس مخرجاً مناسباً وأثنى على ما قاله رئيس المجلس, واضاف مترفعاً, انه يحضر اللقاء بهدف المساءلة وليس بهدف استجداء المديح والثناء.
وعندما جاء دوره للرد على أسئلة أكثر من خمسين نائباً, لم يستغرق رده اكثر من ربع ساعة وربما أقل, وتجنب الحديث في رده على أي موضوع خارج سياق "المحاضرة". والدايم الله!!!.
دعونا نرى المشهد من زاوية اخرى ليكتمل المشهد النيابي الحوكمي من دون حذف او زيادة.
ظهر رئيس الحكومة في اللقاء وهو مملوء ثقة وتحدث بكل استرخاء وأريحية, على عكس لقاء الخميس العاصف في ايار الماضي حيث كان مشدود الأعصاب يتابع المفاجأة غير السارة.
لا يمكن فصل الثقة العالية التي ظهر فيها الرئيس عن الدعم غير المحدود الذي يحظى به الرئيس من رأس الدولة جلالة الملك ومن كل مراكز صنع القرار من دون استثناء وهذا إجماع نادر الحدوث وربما لم يحدث من قبل.
والحقيقة أن الذهبي أثبت أنه يستحق هذا الإجماع فقد ترفع على ما يبدو لي عن لعبة المحاور ولم يُضع الوقت في النظر يميناً وشمالاً بل ظل بنظره متوجهاً نحو الملك والالتزام الدقيق بتوجيهاته, التي من الواضح انها تنسجم مع قناعاته ويسترشد بها منسجماً لا مكرهاً, كما كان يحصل أحياناً ويحصل الآن من البعض.
لكن ذلك يجب ان لا يلغي دور النواب ومجلسهم, وممارسة الرقابة والمساءلة لا يعني خروجهم عن الإجماع الحاصل (فوق), جلالة الملك لا يريد النواب (بصمجية) بل يريدهم ممثلين حقيقيين لمصالح الشعب والوطن, لكن بمسؤولية واتزان وبعد نظر.
ألم يقل الرئيس أنه حضر للمساءلة وليس لاستدرار المديح والثناء. والحقيقة ايضاً أن الذهبي يبدي استعداداً مميزاً للتعاون مع مجلس النواب, لكن مجلس النواب أثبت أنه لا يعرف كيف يستثمر هذا الانفتاح ويرسي تقاليد في العمل بين السلطتين تعزز من مشاركة النواب في تصنيع السياسات والتشريعات العامة للدولة على اختلافها. وتجربة اللجنة المالية في مجلس النواب تؤكد ما ذهبنا اليه, فقد دخلت اللجنة في مساحات من الحوار مع الحكومة كان محذوراً في سنوات سابقة. ولعب رئيس الحكومة على ما أسر لي رئيس اللجنة دوراً حاسماً في تذليل العقبات امام اللجنة المالية لممارسة دورها.
لا أدري من أقنع الرئيس بهذه الخطوة, بغض النظر عن النوايا. هذا التقرير الصحافي كان يمكن أن يوزع عبر الصحافة.
بقي أن أقول إنني لم أشهد الباشا عبدالهادي المجالي بمثل هذا الدور منذ أن عرفته, ولا أدري لماذا يقبل به, أو لماذا يضع نفسه فيه. الروابدة والدغمي كانا أذكى من الجميع حين غابا عن اللقاء, ولم يقبلا أن يمرر المشهد بحضورهما ومن فوق رأسيهما.

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  بسام حدادين   جريدة الغد