طفا على سطح الحراك السياسي والاجتماعي خلال الاسابيع الماضية العديد من البيانات والعرائض واللقاءات, بمشاركة فاعليات سياسية وعشائرية. عبرت جميعها عن موقف واحد, يتلخص في رفض السياسات الاقتصادية المعتمدة, بتجلياتها المختلفة, والدفاع عن شكل ودور الدولة القديم بأنماطه وتحالفاته المعروفة.
وتباينت اشكال التعبير عن هذا الموقف, وشكل إخراجه والمرفقات والحجج الداعمة له, تبعاً للخلفية السياسية والفكرية والاجتماعية لأصحاب المبادرة.
تأتي هذه التحركات والمبادرات السياسية في تقديري كارتدادات شعبية, للجلسة النيابية الصاخبة أواخر شهر ايار الماضي, التي جمعت رئيس الوزراء مع النواب، في جلسة غير رسمية، لمناقشة توجهات الحكومة لبيع اراض واملاك للدولة، تلك الجلسة وما رافقها من نقد صاخب للسياسات الاقتصادية والاجتماعية المعتمدة والهجوم العنيف على رموز التيار السياسي- الاقتصادي الذي يقف خلف هذه التوجهات, الشريحة الاوسع من الموقعين على العرائض من السياسيين هم من المعارضة الساكنة اذا صح التعبير, الذين ينشطون في المناسبات والمحطات الساخنة، وغالبيتهم من المعارضة التقليدية للحكومات قبل وبعد مرحلة الانفراج السياسي عام 1989.
تضم هذه الشريحة من المعارضة, شخصيات سياسية محترمة, بعضها شارك في حكومات ما بعد 89 لكنه عاد الى صفوف المعارضة الساكنة.
التحقق في صفوف هذه المعارضة, رئيس الوزراء الاسبق احمد عبيدات, الذي تمتع بسمعة طيبة بعد مغادرته للمواقع الرسمية, واكتسب شهرة واحتراماً ومصداقية, بعد التقارير المهنية الجريئة عالية الجودة والمصداقية, التي صدرت عن المركز الوطني لحقوق الانسان الذي يرأسه. خاصة التقارير التي تحدثت عن التجاوزات التي حصلت في الانتخابات النيابية والبلدية وقضايا حقوق الانسان.
ما يميز هذه الشريحة من المعارضين, انها قصيرة النفس, ولا تبدي حماساً للعمل المنظم.. والعدد الاكبر منهم من المهنيين الناجحين في عملهم ويحققون دخولاً عالية. ويأخذ العمل الخاص جل وقتهم.. لكن انحيازاتهم الفكرية والسياسية, تظل حاضرة, يعبرون عنها في المحطات السياسية الساخنة.
يغلب على هذه الشريحة من المعارضة, الفكر القومي الاصولي, فغالبيتهم لا يؤمنون بالتسوية السياسية مع العدو الصهيوني ويؤمنون بتحرير فلسطين من النهر الى البحر دفعة واحدة دون توقف حتى ولو لشرب كوب من الماء.
في المجال الاقتصادي يدعمون القطاع العام ويرفضون الخصخصة, ويعارضون سياسة رفع الدعم والسوق المفتوح.. لكنك لا تسمع منهم أية مقترحات لمواجهة الازمة الاقتصادية والمالية الخانقة.
ولوجود عدد كبير منهم من اوساط قانونية, فهم يركزون دائماً على مبادئ العدالة والمساواة وسيادة القانون, ويدعمون فكرة الاصلاح السياسي, لكنهم لا يقدمون افكاراً ديمقراطية للاصلاح ويكتفون بالدعوة الى العودة الى دستور 1952 وهي دعوة مهمة, لكنها لا تعني شيئاً اذا لم تقترن بتشريعات ناظمة للحياة الديمقراطية.
هذه الشريحة من المعارضة كانت تلتقي في فترات سابقة (قبل 89) من زعامات عشائرية محترمة ونافذة, من ابرزها الشيخ المرحوم نايف حديثة الخريشا, لكن بعد مرحلة الانفراج السياسي وعلنية الاحزاب وغياب رموز وطنية بارزة, غيبها الموت عن المسرح السياسي, امثال الشيخ نايف الخريشا وابراهيم بكر وسليمان الحديدي وأمين شقير ومحمود المعايطة وغيرهم. ضعف هذا الركن السياسي, الذي شكل في مرحلة الاحكام العرفية الى جانب الاحزاب المعارضة وبالتحالف معها ركناً سياسياً قوياً مؤثراً وفاعلاً يحسب لمواقفه كل الحساب.
في الاسابيع القليلة الماضية, ظهرت أصوات مهمة من الزعامات العشائرية تنتقد السياسات الاقتصادية, فمناطقهم هي الاكثر تضرراً من رفع الدعم عن الاعلاف والمواد الاساسية, وشمل نقدهم ايضاً سياسة بيع اراض وممتلكات للدولة.
فالبدوي بطبعه يتعلق بالارض ويعتبرها الوطن, والعشائر الاردنية تعتبر نفسها بحق, بناة الدولة وحماتها الاوائل, فأملاك الدولة لها رمزية خاصة بالنسبة لها. وقد حرصت الزعامات العشائرية التي نشطت سياسياً, على التأكيد دائماً على ولائها المطلق للعرش الهاشمي. فهذه الزعامات تعرف اكثر من غيرها, بأن الامن والاستقرار السياسي للدولة الاردنية شرط ملازم لأمنها الاجتماعي والخاص.
لم تكن الجهات الرسمية مرتاحة لهذه النشاطات السياسية الاجتماعية وخاصة انها تأتي من القاعدة الاجتماعية التاريخية للحكم وزادت من الضغوط السياسية عليها, كونها هزت الثقة الشعبية بالسياسات الاقتصادية والاجتماعية للدولة, ورفعت من منسوب الشكوك بنزاهة وشفافية المسار الاقتصادي والقائمين عليه.
وقد التقطت كتلة التيار الوطني النيابية التي يتزعمها رئيس المجلس عبدالهادي المجالي, اللحظة المناسبة لتميز نفسها ومجلس النواب عن التداعيات السياسية التي اعقبت جلسة النواب الصاخبة مع الحكومة, فأصدرت بياناً انتقدت فيه بشدة, التحركات والبيانات والعرائض واعتبرت ان بعضها "تجاوز حدود المنطق والمعقول وانطوت على قدر من التشكيك والمزايدات". ولم تخل التحركات الشعبية من بعض الشطط والتجريح والشخصنة. لكن هذه الشطحات لم تكن طاغية وان كانت قد اضعفت التحركات المعارضة المتزنة, وانا شخصياً لا اعتبر أن النداء الذي وقعته مجموعة احمد عبيدات "تجاوز حدود المنطق والمعقول" مع اختلافي مع بعض ما جاء في النداء.
أخيراً لا بد من التأكيد على ان وجود مثل هذه التحركات شيء طبيعي ومتوقع من قبل شرائح اجتماعية واشخاص تضرروا من السياسات المعتمدة. ومن الخطأ ربط هذه التحركات بصراع مراكز صنع القرار. وان كان هناك من استفاد منها.. لان حالة الاشتباك السياسي بينها مستمرة رغم محاولات التمويه عليها. ومحاولات الحركشة والضغط مستمرة ايضاً, للتأثير على نتائجه.
نعود لنؤكد, أن التحولات الاقتصادية والاجتماعية الجارية في جسم المجتمع والدولة, تحتاج الى بيئة ديمقراطية شفافة توفر مناخاً لكل مكونات المجتمع ليعبر بالوسائل السلمية والحضارية عن مصالحه وحقه المشروع في الدفاع عنها. تحت مظلة القانون العادل, وهذه البيئة الصحية وحدها التي تحمي الجبهة الداخلية وتعزز ثقة المواطنين بحكوماتهم وبالسياسات المعتمدة وتجعلهم شركاء في صنع حاضرهم ومستقبلهم.

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  بسام حدادين   جريدة الغد