يعرض محمود حيدر في كتابه "الدولة المستباحة" أفكارا وأسئلة نستعيدها في مناسبات جديدة في السياسة، وصاحبت استباحة سيادة الدول و"التدخل الإنساني" وتظل تتوالى بلا جواب واضح، وقد بدا في السنوات القليلة الأخيرة أن العالم كله متجه إلى أحكام الجغرافيا السياسية "الجيوبوليتيك" أو سياسة المكان، حين يصبح المكان مجالا لنزع السيادة وتثبيتها، ومجالا لما يجري من صراعات اليوم على الحدود والمياه والثروات الطبيعية، وكذلك على الهوية والاعتراف والسيادة والاستقلال.
 وذوت بسرعة الدهشة التي أخذنا بها في التسعينيات عندما رأينا دولا تتهاوى ونهايات تبزغ، واستيقظنا بعد سنوات قليلة من انهيار الاتحاد السوفياتي والشيوعية لنجد أن العالم يدور في المنطقة الوسطى بين الانتهاء والابتداء.
وتعيش الأمم المتحدة زمنا انتقاليا مثيرا للإشكاليات، فهي تعيش عصر التحولات الكبرى بين عالمين متناقضين: عالم الحرب الباردة، وعالم ما بعد سقوط نظام القطبية، أو ما يطلق عليه عصر ما بعد الحرب الباردة.
إلى أي مدى استطاعت الأمم المتحدة أن تكون حاجة للنظام العالمي بعد الحرب الباردة، وأن تنأى عن تأثير استقطاب القوة بعدما قيض للولايات المتحدة الانفراد بزعامة العالم؟
لقد أثبتت الأحداث الإقليمية بعد الحرب الباردة مجموعة من الحقائق تتصل بالأمم المتحدة كضرورة عالمية، وهي: تخلع منظومة القيم القانونية والأخلاقية للمنظمة الدولية، ما وفر للولايات المتحدة أن تتعامل مع الأمم المتحدة ومجلس الأمن كممر إجباري لتحقيق الإجماع الدولي حول إستراتيجيتها الأمنية ومقتضيات نفوذها السياسي والاقتصادي.
الحاجة إلى الأمم المتحدة تزداد إلحاحا بازدياد المعضلات الكونية التي لا يمكن لدولة واحدة مهما عظم شأنها أن تتولاها وتحفظ ضوابطها، كالمسائل المتعلقة بمراقبة الفضاء الخارجي، وبيئة الأرض، والتصحر، ومشكلات العالم الفقير من جهل وفقر ومرض.
وكشفت الوقائع التي سبقت الحرب الأنغلو أميركية على العراق عن خرافة الالتزام بالقانون الدولي، ولم تفلح الدول الرئيسية الثلاث الأخرى في مجلس الأمن، وهي فرنسا وروسيا والصين التي عارضت الحرب في وضع حق الفيتو الذي تتمتع به موضع التطبيق.
وهو ما يعد إسقاطا متعمدا لواحدة من أهم وأخطر القواعد التي يقوم عليها التوازن الذي يحكم العلاقات بين الدول الخمس الكبرى في مجلس الأمن. وأصيب القانون الدولي بضرر بالغ، وبخاصة لجهة المبدأ الأصلي الذي قامت عليه منظمة الأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، وهو تفادي الحروب التي جلبت للإنسانية الدمار حسب مقدمة ميثاق الأمم المتحدة.
ولئن كانت الحرب الباردة قد نظمت العالم ضمن حقول التوازن النسبي سحابة نصف قرن، فإن نهايتها المدوية في تسعينيات القرن العشرين أطلقت زمنا أمنيا وسياسيا معاكسا، فعلى امتداد عقد من انفراط الثنائية القطبية وتمركز الإدارة الدولية في يد الولايات المتحدة سنشهد ما يمكن وصفه بالصيرورة التدريجية لتفكيك النظام الإجمالي للأمم المتحدة.
على المستوى العالمي وتحديدا في أوروبا كانت الإجابات حائرة ومرتبكة، وهذا عائد إلى سرعة التحولات الأمنية والاقتصادية والسياسية في العالم، وإلى جريانها خارج إرادة المجتمع الدولي وقوانينه، ما جعل الأمم المتحدة ومؤسساتها مجرد محافل دبلوماسية تتعاطى مع خواتيم الأحداث ونتائجها من دون أن تفعل بها أو تقرر اتجاهاتها.
لقد آل الوضع الدولي بعد الحرب الباردة إلى حقل تجارب للسياسات الأميركية، ولم تكن منظمة الأمم المتحدة وفي مقدمتها مجلس الأمن خارج المنطق التجريبي. ويبدو التعاطي الأميركي مع المنظمة الدولية ومبادئها وقوانينها ومؤسساتها قائما على ما يشبه الانفصال والاتصال. وهي ثنائية أريد منها وضع المنظمة ضمن السياق الذي يوفر للولايات المتحدة غطاء شرعيا لتوسعة نفوذها في العالم، ومن ناحية أخرى تعطيل فاعلية القوانين التي تشكل موانع في وجه إستراتيجيات السيطرة المفتوحة.

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  ابراهيم غرايبة   جريدة الغد