يظهر الكبار كثيرا من التعقل والحكمة في تدارك الموقف والسيطرة على ردود الأفعال، والوصول الى تفاهمات وحلول لدى انفجار مشاجرات جماعية واعتداءات عشوائية، لكنهم ليسوا بريئين تماما من المصالح ومن المناخ العام الذي يقف وراءها، وخصوصا العصبية العشائرية التي توسع حوادث عنف قد تتفجر لأي سبب.
الأساس وراء تحول اعتداء أو مشاجرة فردية الى مواجهة جماعية هي الفرضية التي يتغذى أو عاد يتغذّى عليها العقل الجماعي داخل الجامعات وخارجها على السواء، وهو العضوية في كيان له قضية تتأثر سلبا أو ايجابا بما يقع لأي من أعضائه مع بقية المجتمع، وليس مهما أن يكون الشخص المعني ظالما أو مظلوما. فبقدر حجم الفزعة تتمظهر سطوة الكيان وتماسكه ومكانته، ويتشرب الأولاد هذه الفرضية ويأخذها الشباب في سنّ المراهقة الى أقصى مدياتها، وهكذا يمكن ان تقع حادثة اعتداء في البلقاء التطبيقية فيستنفر الشباب في الأردنية واليرموك! ولا بدّ من إيجاد خصم أو عدو هو بالضرورة مَن توفر من ابناء العشيرة الأخرى، والعكس صحيح؛ حتى لو أن أي من الطرفين هنا لم يعرف أو يسمع من قبل بهذا القريب المتورط في الشجار هناك.
يمكن أن نتفق ان ما يحدث خطأ ومرفوض، ويتناقض مع أول مبادئ المواطنة بل المنطق السليم، حيث كل فرد مسؤول وحده دون غيره عن تصرفاته في دولة ومجتمع تحكمه مؤسسات دستورية، وقانون يحاسب ويعاقب من يخالف أو يعتدي، لكن ظاهرة العنف الجماعي على أساس عشائري ليست الا مظهرا متطرفا فقط، للارتداد المذهل عن العضوية السويّة للجميع في الكيان العام للدولة، والأصل أن بنية اجتماعية ثقافية سائدة تعكس بنيّة اقتصادية وإنتاجية سائدة، والأردن اقتصاد حديث يزكي علاقات اجتماعية حديثة، فكيف يحدث هذا الارتداد الى عصبية مرتبطة بالاقتصاد الرعوي والمجتمع القبلي السابق على الدولة؛ وفق ما تحدث عنه ابن خلدون في مقدمته الشهيرة؟!
من المفارقات أن هذا الارتداد عاد يتبدّى واضحا بعد التحول الديمقراطي الذي عجز عن تأسيس أدواته الخاصّة، وهي الأحزاب والمنظمات الاجتماعية الأخرى، فعادت المنافسة والتمثيل والتصدر تستند الى العلاقات الأولية القديمة التي لا يتوافر غيرها، وصلات القربى تنفع كفزعة للانتخابات النيابية التي هي بدورها سبب نزاعات ومشاحنات عائلية ومرارات عميقة. وهكذا يدوم التناقض بين التحديث الاقتصادي من جهة، والتخلف السياسي-الاجتماعي من جهة اخرى، وتتسم العلاقات العشائرية نفسها بالتشوه؛ فالعشيرة لم تعد تتمتع بأي بنيّة وتقاليد للزعامة والانضباط خاصّة بها، والمكانة الاجتماعية والإنجاز والثراء والمناصب محكومة لآليات أخرى، ويتوجب افتعال عصبية عشائرية تملأ الفراغ السياسي والفكري للحراك الاجتماعي، وهو ما يتبدّى بصورة فاقعة في الجامعات نفسها.
واقع الشباب والجامعات يعكس واقع المجتمع، والعصبية العشائرية في أيامنا هذه مفتعلة الى درجة كبيرة بسبب الفراغ السياسي، ونحن نحتاج الى آليات سياسية حديثة تترك لصلات القربى حيزها الاجتماعي الطبيعي. وفي هذه الأيام بالذات ونحن نناقش التغيير في الانتخابات النيابية، نوجه النداء بكل قوّة الى من يعنيهم الأمر أن لا يخذلوا الحاجة القصوى لتوفير أدوات التحديث السياسي في القانون الجديد.

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

جريدة الغد   جميل النمري  صحافة