الشعوب كلها تجمع بينها ذاكرة الجوع، ولا تبدو النزهات والرحلات سوى تناول الطعام وإعداد المشويات كأنها هي هدف الرحلة وليس الطبيعة
تلاحظ إميلي نوثومب في روايتها الرائعة "بيوغرافيا الجوع" أن اللوحات الفنية الرائعة في تصوير الأعياد والاحتفالات والطبيعة والمشاعر الإنسانية مصدرها ندرة الأطعمة التي تعرض عادة في اللوحات، وفي مشاهداتها للحياة والفن في الجزر الأوقيانوسية، وهي الجزر التي اعتبرها دايموند أفضل مختبر لدراسة تاريخ البشرية. وتلاحظ أن غينيا الجديدة هي أكثر الجزر تصويرا لصنوف الطعام، وكان إبداعها الفني أيضا هو الأغنى والأكثر حيوية وابتكارا ليس فقط في رسومه الغذائية، بل أيضا في بعض الأشياء التي لا تخلو من صنعة حقيقية وفذلكة، فكيف لا نخلص من ذلك، تتساءل نوثومب، إلى أن هؤلاء جاعوا، وأن هذا الجوع قد أيقظ ملكاتهم، وفي المقابل فإن جزيرة فانواتو المجاورة والأكثر روعة ووفرة كانت تخلو تقريبا من الفنون والإبداع والدهشة، لأن أهلها لم يجوعوا يوما، ولم يحلموا بالطعام، فهناك الطعام وفير لدرجة لا تحتاج معها للعمل أو الجهد أو الخيال!
والناس هناك لا يحتاجون لصناعة الحلوى طالما أن الغابة تمدهم بأحلى أنواع الفاكهة، ولا يحتاجون للتحايل في الطهي، والطعام يتاح شهيا لدرجة لا يحتاجون إلى إبداع الطهو، فلمَ يتكبد الإنسان مشقة العمل والتفكير عندما يكون كل ما نبدعه من أطعمة وحلويات وصلصات تبدو شيئا تافها بالنسبة لجوز الهند الطازج والموز المتاح وثمار البحر وصدفياته التي تكاد تصل إلى الإنسان من تلقاء نفسها، ولكن لحسن/ سوء الحظ أن العالم كله مختلف عن فانواتو، فالشعوب كلها تجمع بينها ذاكرة الجوع، وعندما نتزاور في البيوت نبادر بالسؤال عن الغداء والعشاء ثم نمضي وقت الضيافة في تناول الطعام والشراب حتى لو لم يكن ثمة حاجة للطعام، ولا تبدو النزهات والرحلات لنا سوى تناول الطعام وإعداد المشويات كأنها هي هدف الرحلة وليس الطبيعة أو الهدوء أو البحر أو المشي أو السباحة أو النسيان! ولذلك فإن الصين اليوم وفي التاريخ أيضا هي أكثر الحضارات تألقا، والطعام الصيني هو الأكثر شعبية في العالم، لأن الصين هي زعيمة الجوع بلا منازع، تملك أفضل تاريخ في الجوع.
والغريب أن جزر الوفرة الهائلة لم تجتذب المحتلين والمستعمرين في موجة الاستعمار الأوروبية التي أغرقت العالم كله، برغم أن أكثر البلدان تعرضا للاستعمار كانت أغناها وأخصبها كما نعرف جميعا، ولكنها جزر ليست غنية بالمفهوم الذي تعارفت عليه البشرية للغنى، فالثراء هو محصلة عمل، وليس هناك عمل، ولا زراعة ولا تجارة، فما كان يجذب المستعمرين ليس ثروة البلدان في حد ذاتها، بل الجهد الذي بذله الناس فيها، أي نتاج الجوع، إنه تحليل أقدمه على ذمة نوثومب، وإذا شاء القارئ العزيز أن يصدق ذلك أو ألا يعجبه فأرجو ألا يلقى اللوم عليّ، بل على الروائية البلجيكية المدهشة إميلي نوثومب، ولكن لو تأملنا في التاريخ والجغرافيا فسنجدهما زاخرين بالأمثلة التي تصدقها وتؤكد على مقولتها بأن غياب الجوع مأساة وكارثة على البشر.
في روايته الفلسفية الخالدة "حي بن يقظان" يجد ابن طفيل أن حي في عزلته ووحدته على جزيرته وجده اهل المدينة عندما تعرفوا عليه حكيما فاختاروه ليرشدهم وينظر في خصوماتهم ومشكلاتهم، فكانت قضايا الناس كلها متعلقة بالمال والخلاف عليه، فكان يعجب من حاجتهم للمال وقتالهم عليه، فهو كان يراه شيئا عديم القديمة ولا حاجة للناس به فضلا عن التقاتل عليه، ولكن هل كان ممكنا أن نجد هذا التراث الرائع من القوانين والأنظمة والمواثيق والحريات وحقوق الإنسان والمساواة والشعر والرواية وملاحم البطولة والفداء والكرم لو صدقنا حي بن يقظان؟
تتساءل الطفلة الصغيرة ذات السنوات العشر لماذا تدرج قصة حاتم الطائي في مناهج الدراسة، وهي لا تبدو لها ليست سوى حماقة، لماذا يذبح الإنسان حصانه ليقدمه للضيوف، ويترك نفسه وأسرته ولماذا يقدم ماله وطعامه للآخرين وهو وأطفاله أحق به؟ أليس النبل هو أن يعمل الناس بدلا من يتمتعوا بجهود وأموال الآخرين؟ سيبدو كلامها منطقيا لو أن الكرم كان بالفعل كما نقدمه في مناهجنا ووعينا المتأخر على أنه هواية أو خلق منزه عن حياة الناس ومصالحهم وعقدهم الاجتماعي، ولكن عند النظر إليه (الكرم) على أنه مورد ومجال خدماتي مشترك للناس يحتاج إليه كل الناس في ترحالهم وتنقلهم وتبدل أحوالهم وتعاقبها فسوف نجده متطلبا ضروريا للحياة والبقاء واستمرار المصالح، ففي الطرق والبوادي والجبال التي يعبر بها التجار والناس سعيا وراء عملهم يجدون في الكرم محركا للازدهار ونمو الأعمال والمصالح يتبادلون فيها الأدوار والمنافع، فالمقيم الذي يكرم الناس اليوم في مكان ما سيكون هو ضيفا في وقت ومكان آخر.
ما حاجتنا لنعرف سر الجوع وأهميته؟
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة ابراهيم غرايبة جريدة الغد