لا أعتقد أن الأردنيين الذين خرجوا في تظاهرات الولاء والانتماء يرون في خروجهم هذا تعارضا، أو يريدونه اعتراضا على مطالب الإصلاح الشامل والديمقراطية الحقيقية والحرب على الفساد، وليتأكد الأردنيون أن رؤوس الفساد وحدهم هم من يريد للتظاهرات أن تأخذ هذا المعنى للقضاء على آمال التغيير والإصلاح.
لا شيء يبرر التنكر لديمقراطية حقيقية تملك سلطة المراقبة والمحاسبة والمساءلة بلا حدود أو قيود الخوف على المصالح والامتيازات غير المشروعة، والتكسب والإثراء على حساب البلد والشعب، ولن يكون ممكنا مكافحة الامتيازات الهائلة والتنعم بالثروة والسلطة على حساب الشعب إلا بوجود سلطة رقابة حرّة وحقيقية، ولا يمكن لهذه أن توجد إلا بتمكين الشعب من سلطة القرار عبر انتخابات حرّة تنتج برلمانات حرّة.
بعد التحول الديمقراطي العام 1989، وكانت البلاد تغلي بالغضب على الفساد، بدا لوهلة أن زمن التغوّل على المال العام والقرار الاقتصادي لمصالح خاصّة قد ولّى، لكن ذلك لم يحدث، وعدنا نسمع عن قصص فساد وجدت في مشاريع الخصخصة على وجه الخصوص منجما للإثراء، فلماذا حصل ذلك؟! ولماذا استمر الفساد، بل تمأسس أكثر فأكثر طوال عقد التسعينيات والعقد المنصرم من الألفية الجديدة؟! ببساطة، لأنه لم يكن هناك ديمقراطية حقيقية تتيح التوسع في سلطة الرقابة والمساءلة بلا حدود ولا خطوط حمراء ولا مناطق حظر أرضي وجوّي وبحري، وأعطيكم مثالا في قضية دراسات جدوى الديسي التي أشرت إليها في آخر سطر من المقال الماضي.
وضع الفاسدون أعينهم على مشروع الديسي وهو الأكبر على الإطلاق في تاريخ البلد. وكانت الحكومة حائرة العام 2004 في تنفيذه عبر الشركات الخاصّة لأن كلفة الماء على المواطن سترتفع إلى حدود غير مقبولة. فسمسر البعض على فكرة تنفيذه من خلال صندوق الاستثمار التابع لشركة موارد المملوكة من القوات المسلحة، وهي الآن رهن التحقيق في قضايا فساد تغمرهم من الرأس إلى القدم. ورغم معارضة وزراء رأوا أن عرض السعر مخادع، وعلى رأسهم وزير المياه السابق حازم الناصر، تمّ تحويل المشروع بالترهيب والتخويف من مراكز قوى إلى شركة موارد وشريكها في المشروع السيد خالد شاهين لينفذ عبر شركات خاصّة. 
بعد أشهر اكتشف جلالة الملك الخداع فأمر بوقف المشروع. وكنت أواكب الأمر، وكتبت مقالا تحت عنوان "لا يصح إلا الصحيح.. ولو بعد حين". وارتحنا أنه تمّ إنقاذ المشروع من براثن الفساد، لكن لم نعرف أنه خلال هذه الفترة الوجيزة أمكن شفط 12 مليون دينار تحت اسم دراسة جدوى للمشروع لا تكلف حسب ما قال خبراء لهيئة مكافحة الفساد سوى ما بين 35 إلى 70 ألف دينار. تخيلوا قبل أن يبدأ المشروع تم إنفاق 12 مليون دينار على دراسة تستحق بضع عشرات آلاف. ولم يمكن كشف ذلك في حينه لأن الخطوط الحمراء ما كانت تسمح بالوصول إلى "موارد" وغيرها!
لن يكافح الفساد أبدا من دون ديمقراطية حقيقية لا تسيجها خطوط حمراء. هذه هي مصلحة الشعب والبلد، وهكذا نعين الملك على إقامة مجتمع العدالة والإنصاف.

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

جريدة الغد   جميل النمري  صحافة