كيف يتحول العمل السياسي والحزبي إلى تنافس حقيقي بين الرؤى والبرامج والمشروعات؟ بالطبع فإن جميع الأحزاب تستطيع أن تقدم أفكارا عظيمة للإصلاح والتنمية والحلول، ولكن أحدا لا يأخذ المسألة بجدية، لماذا؟ أنشأنا وزارة التنمية السياسية، وأطلقت الحياة الحزبية من قبل، وتجري انتخابات عامة وتشريعية ونقابية، ولكنها عمليات تجري في بيئة معزولة ومستقلة عن حياة الناس وتطلعاتهم الحقيقية.
الحياة السياسية لا تطلقها فقط التشريعات الممتازة ولا حريات تشكيل الأحزاب والصحف، ولكنها تنشأ في بيئة ملائمة، وبغير هذه البيئة فإنها ستكون مثل محاولة زراعة النخيل في القطب الشمالي.
تكاد تقتصر مشاركة المواطنين في الحياة السياسية على الانتخابات العامة بمعزل عن تراكم التجارب والبرامج ومقارنتها، وهذا يساهم في إفشال الانتخابات العامة وإفراغها من مضمونها، وتحولها إلى تنافس عشائري وفردي، ويحرم هذا الغياب أيضا الأحزاب السياسية من تطوير خبراتها وبرامجها وإخضاعها للتطبيق والمنافسة، ويحرم أيضا النظام السياسي والحكومات من مدخلات وخبرات إضافية في العمل والتطبيق، ويحول النخب السياسية والاجتماعية إلى نخب راكدة ومغلقة، ما يصيبها بالفساد والعزلة عن المجتمع، ويزيد الفجوة الاجتماعية والاقتصادية بين الطبقات والفئات، وفي المحصلة فإن العملية السياسية برمتها تتحول إلى عبء على نفسها وعلى المجتمع، ولا تعود أداة للتقدم والإصلاح، بل العكس فإنها تتحول إلى أداة سيطرة واحتكار للفرص والموارد وللفساد، ولا تعود الحكومات والمجتمعات قادرة على ملاحظة التقدم العالمي واستيعابه وتوظيفه، ولا تفيدها العولمة والتطورات الكبيرة في التقنية والاتصالات والمعلوماتية.
التشكيل النخبوي المغلق للوزارات والمناصب يحرم المجتمعات من تشكل قيادات متجددة، ويغلق الباب أمام التنافس، ولا يعود الإبداع والطموح والعمل هو أساس التقدم، وهذا سيحرم الحياة السياسية من الحراك الحقيقي، وعندما تتشكل الحكومة من خلال قاعدة واضحة وتقاليد من الفرز والتنافس، فتكون تشكيلتها والترشيح لها مبنيين على فرز واختيار وديمقراطي أو تقاليدي من النواب والمهنيين والأكاديميين ورجال الأعمال وكبار الموظفين ورؤساء البلديات، فإنها ستعبر عن حراك وتنافس قوي وفاعل في جسم الجامعات والنقابات والحياة العامة، وعندما تتحول البلديات والمدن والمحافظات إلى مؤسسات للحكم المحلي تملك مواردها وصلاحياتها فإنها تقدم عددا كبيرا من القادة المحليين الذي يمكن أن يتقدموا في العمل العام والسياسي على المستوى الوطني.
وعندما تكون الضرائب في جبايتها وإعادة توزيعها قائمة على العدالة الاجتماعية، وتلغى الامتيازات الطبقية والفئوية فإن الطبقات الوسطى سوف تتحرر من عبء اقتصادي واجتماعي هائل ترزح اليوم تحته، وتتشكل بيئة اقتصادية مشجعة للطبقات الوسطى والفقيرة للمشاركة السياسية والشعور بالأمان الاقتصادي، ويلغي تبعية المجتمعات للنخب الاقتصادية، وهيمنتها على الانتخابات والحياة السياسية.
وعندما يعود توزيع الإنفاق العام ليستفيد منه جميع المواطنين بالتساوي وجميع المدن والمحافظات بالتساوي فإن ذلك يتيح للمواطنين فرص التمتع بالموارد العامة والحرص عليها والحرص على تطوير الحياة السياسية والعامة المنظة لها، فالتهميش الاقتصادي يؤدي بالضرورة إلى تهميش سياسي واجتماعي.
وعندما جري إفشال الخدمات العامة الأساسية كالصحة والتعليم فإن ذلك يؤدي حتما إلى توزيع غير عادل للفرص الأساسية ويهمش فئات واسعة من المجتمعات والأجيال ويحرمها من القدرة على المشاركة والتأثير، أو يثقل كاهلها المثقل أساسا لتحمل أعباء كبيرة وهائلة لتأمين التعليم والعلاج من خلال القطاع الخاص، فلا يمكن الحديث عن حياة سياسية وبرامج إصلاح في بيئة لا يستطيع المواطنون فيها الحصول على تعليم وعلاج مناسب ولائق.
وعندما لا يمنع أحد من الوصول إلى الفرص والوظائف والمناصب العامة وفي الشركات والبنوك ايضا على أساس خلفيته السياسية أو الفكرية او الاجتماعية او الجغرافية فإن ذلك يوقف الحالة المعطلة للحياة السياسية والاقتصادية والقواعد الفاسدة من القرابة والشراكات المشبوهة والشللية والنخبوية التي تحول التيارات السياسية والاجتماعية والطبقات والفئات المختلفة إلى أغلبية مهمشة، ولا يعود ثمة فرصة للترقي والتقدم في الحياة والمناصب والعمل السياسي سوى المشاركة (إن أمكن ذلك) في دوائر ومجموعات قاسية ومغلقة، وتجعل الحياة السياسية عديمة الجدوى، ولا تؤدي إلى تغيير حقيقي في بنى المجتمعات والنخب والبرامج والمواقف والموارد العامة.
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة ابراهيم غرايبة جريدة الغد