عبد الله حسين
كاتب سوداني
تعرف النقود بأنها الشيء الذي اصطلح الناس على جعله ثمناً للسلع والخدمات، وأجرة للجهود، سواء كانت معدناً أو غير معدن.. وبها تُقاس جميع السلع والجهود والخدمات.
وقد كان الناس يتبايعون ويتبادلون السلع والجهود مقايضةً قبل أن تعرف النقود..
لكن لما كان تبادل السلع والجهود مقايضة يكتنفه كثير من الصعوبات التي فرضت قيداً على المعاملات التجارية، فقد فكرت الجماعات في اختيار سلعة أساسية، لها قيمة في ذاتها، وسهلة التداول؛ لتكون مقياساً تقاس به جميع السلع وجميع الجهود، فأوجدوا النقود لتكون هي (وحدة القياس).. ولما كان الذهب والفضة من المعادن الثمينة التي لها قيمة ذاتية عند البشر من قديم الزمان، فقد اتخذوا منهما نقداً، وسَكُّوا منهما الدنانير والدراهم، لا سيما وأنهما يتمتعان بالندرة
النسبية، كما يمتاز الذهب بعدم قابليته للهلاك مع الزمن.
وقد اتخذت الدولة الرومانية والبلاد التابعة لها الذهب أساساً لعملتها، فسَكَّت منه الدنانير الهرقلية، وجعلتها على شكلٍ ووزنٍ معينين. كما اتخذت الدولة الفارسية والبلاد التابعة لها الفضة أساساًَ لعملتها، وسَكَّت منها الدراهم، وجعلتها على شكلٍ ووزنٍ معينين، وكانت دنانير الروم على شكلٍ ووزنٍ واحد لا يختلف، أما دراهم الفرس فكانت على عدة أشكال وأوزان.
وكان العرب قبل الإسلام وخاصة قريشاً، يتاجرون مع من جاورهم من الأقطار
والبلدان؛ قال تعالى: (لإيلافِ قُرَيْشٍ. إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاء وَالصَّيْفِ)، وكانوا يرجعون من الشام حاملين دنانير ذهب قيصرية، ومن العراق دراهم فضية كسروية، وأحياناً قليلة من اليمن دارهم حميرية، فكانت ترد إلى الحجاز دنانير الذهب الهرقلية ودارهم الفضة الساسانية؛ غير أنهم لم يكونوا يتعاملون بهذه الدنانير والدراهم عدا، بل وزناً؛ باعتبارها تبراً، أي مادة صرفة
من ذهب أو فضة غير مضروبة، ويغضون النظر عن كونها نقوداً مضروبة؛ لتنوع الدراهم واختلاف أوزانها، ولاحتمال أن تنقص الدنانير من كثرة تداولها، وإن كانت حين ذاك ثابتة الوزن.. فلمنع الغبن كانوا يعمدون إلى الوزن، وكانت لهم أوزان خاصة يزنون بها، هي الرطل والأوقية، والنش، والنواة، والمثقال، والدرهم، والدانق، والقيراط، والحبة.. وكان المثقال عندهم -وهو أساس الوزن- معروف الوزن، ووزنه اثنان وعشرون قيراطاً إلا حبة، وكان وزن عشرة دراهم عندهم سبعة مثاقيل.
فلما جاء الإسلام أقر رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم التعامل بهذه الدنانير والدراهم، وأقر اعتبارها نقداً، كما أقر الأوزان التي كانت قريش تزن بها هذه الدنانير والدراهم.. عن طاؤوس عن ابن عمر قالَ: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: الْوَزْنُ وَزْنُ أهْلِ مَكّةَ، وَالمِكْيَالُ مِكْيَالُ أهْلِ المَدِينَة.. رواه أبو داود والنسائي.. وروى البلاذري عن عبد الله بن ثعلبة بن أبي صُعَيْرٍ، قال: (كانت دنانير هرقل ترد على أهل مكة في الجاهلية، وترد عليهم دراهم الفرس البغلية، فكانوا لا يتبايعون إلا على أنها تبر، وكان المثقال عندهم معروف الوزن، وزنه اثنان وعشرون قيراطاً إلا كسراً، ووزن العشرة دراهم سبعة مثاقيل، فكان الرطل اثني عشرة أوقية، وكل أوقية أربعين درهماً، فأقر الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك، وأقره أبو بكر وعمر وعثمان وعلي).
وقد بقى المسلمون يستعملون الدنانير الهرقلية، والدراهم الكسروية على شكلها، وضربها، وصورها، طيلة حياة الرسول صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، وطيلة خلافة أبي بكر، وأيام خلافة عمر الأولى.. وفي سنة عشرين من الهجرة -وهي السنة الثامنة من خلافة عمر بن الخطاب- ضرب عمر دراهم جديدة على الطراز الساساني، وأبقاها على شكلها وأوزانها الكسروية، وأبقى فيها الصور والكتابة البهلوية، وزاد عليها كتابة بعض الكلمات بالحروف العربية الكوفية، مثل (بسم الله) و(بسم الله ربي).. واستمر المسلمون في استعمال الدنانير على الطراز البيزنطي، والدراهم على الطراز الساساني، ومع كتابة بعض الكلمات الإسلامية بالحروف العربية إلى أيام عبد الملك بن مروان؛ ففي سنة 75 وقيل 76 من الهجرة ضرب عبد الملك الدراهم، وجعلها على طراز إسلامي خاص، يحمل نصوصاً إسلامية؛ نقشت على الدراهم بالخط الكوفي، بعد أن ترك الطراز الساساني. وفي سنة 77 من الهجرة ضرب الدنانير على طراز إسلامي خاص، ونقش عليها نصوصاً إسلامية بالخط العربي الكوفي، وترك الطراز البيزنطي الذي كانت الدنانير عليه.. وبعد أن ضرب عبد الملك بن مروان الدراهم والدنانير على طراز إسلامي خاص صار للمسلمين نقدهم الخاص؛ على طراز إسلامي معين، وتخلو عن نقد غيرهم.
بالإضافة إلى ذلك قد ربط الإسلام أحكاماً شرعية بالذهب والفضة، باعتبارهما ذهباً وفضة، وباعتبارهما نقداً وعملة، وأثمانا للأشياء، وأجرة للجهود. ومن هذه الأحكام:
- حرم كنزهما: قال تعالى (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ)، فجعل حرمة الكنز منصبة على كنز الذهب والفضة، باعتبارهما ذهباً وفضة، وباعتبارهما نقداً، وأداة للتداول، وبهما تتم المبايعات والأعمال.
- فرض فيهما الزكاة باعتبارهما نقدين، وأثماناً للسلع، وأجرة للجهود، وعيّن لهما نصاباً معيناً من دنانير الذهب ودراهم الفضة؛ ففي كل عشرين ديناراً نصف دينار، وفي كل مائتي درهم خمسة دراهم.
- حين فرض الدية جعلهما يدفعان فيها، وعين لها مقداراً معيناً من الذهب، وهو حوالي ألف دينار، ومقداراً معيناً من الفضة، وهو اثنا عشر ألف درهم. وعن ابن عباس: (أنَّ رجلاً من بني عَدِيّ قُتل، فجعل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم دِيَته اثني عشر ألفاً)؛ أي من الدراهم، رواه أصحاب السنن. وعن أبي بكر بن محمد بن عمر و بن حزم، عن أبيه عن جده قال: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن كتاباً فكان كتابه: وأن في النفس الدية مائة من الإبل؛ وعلى أهل الذهب ألف دينار)، رواه النسائي.
- حين أوجب القطع في السرقة عيّن المقدار الذي تقطع فيه يد السارق من الذهب بربع دينار، ومن الفضة بثلاثة دراهم، وجعل ذلك مقياساً لكل ما يُسرق.. عن عائشة عن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: (لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعداً). عن نافِعٍ عنِ ابنِ عمرَ قال: قَطَعَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في مِجَنّ قِيمَتُهُ ثلاثةُ دراهم.
فرَبْطُ الإسلام كل هذه الأحكام الشرعية بالذهب والفضة؛ بوصفهما نقدين وعملة للتداول، وأثماناً للمبيعات- هو إقرار من الرسول صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لجعل الذهب والفضة هما الوحدة القياسية النقدية التي تقدر بها أثمان المبيعات وأجرة الجهود.
وهذا دال على اعتبار أن النقد في الإسلام هو الذهب والفضة؛ لأن جميع الأحكام التي لها ارتباط بالنقود ربطت بالذهب والفضة باعتبارهما ثمناً لجميع السلع والجهود، ونقداً للتداول، سواءً كانا مسكوكين أو كانا تبراً؛ أي غير مسكوكين.
وكانت الدولة الإسلامية طيلة فترة حكمها تتعامل في نقدها على أساس الذهب والفضة (الدينار والدرهم).. وكذلك بقية بلاد العالم؛ اتخذت من الذهب والفضة عملة ونقداً لها، إلى قبيل الحرب العالمية الأولى، ولكن أوقف التعامل بهما، ثم رجع بعد الحرب العالمية الأولى إلى استعمال الذهب والفضة رجوعاً جزئياً، ثم أخذ يتقلص هذا التعامل.. وفي سنة 1971م ألغي التعامل بالذهب والفضة إلغاءً كلياً؛ حين قرر الرئيس الأمريكي نيكسون في 15/7/1971م رسمياً إلغاء نظام بريتون وودز، القاضي بتغطية الدولار بالذهب، وبربطه به بسعر ثابت، وأصبح الدولار هو أساس التعامل، وهو ما سعت له أمريكا لأسباب استعمارية، لتهيمن على النقد في العالم، وقد جر ذلك إلى مشاكل نقدية، وأزمات خانقة، من تضخم وغيره.
وما يجري الآن من تغيير العملة من الدينار إلى الجنيه، وما أثار ذلك من جدل واسع في أوساط المجتمع إنما هو تطبيق لما اتفق عليه في نيفاشا، عندما طالبت حركة التمرد بتغيير الدينار؛ لأنه ذو طابع إسلامي؛ وهذا لا يتفق مع السودان الجديد الذي يقوم على فصل الدين عن الدولة صراحة، ولا يقبل بأي مظهر يمُت إلى الإسلام بصلة، حتى لو كانت اسماً؛ كما هو حال الدينار السوداني؛ مع أنه ليس شرعياً، باعتبار أنه لا يستند إلى الذهب والفضة؛ وإنما هو ورقة إلزامية يسندها فقط القانون.
وإذا أردنا أن نعيد هذا النقد الشرعي الذي يستند على الذهب والفضة فهذا يقتضي العمل لإيجاد دولة مبدئية تقوم على أساس الإسلام، دولة خلافة، عندها يصبح هذا الأمر واقعاً مطبقاً، ويقضي على الهيمنة النقدية التي يفرضها الغرب الكافر عن طريق مؤسساته المالية، مثل صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، بجعل الدولار هو أساس النقد، وتقاس به بقية النقود في العالم.
 

المراجع

شبكة المشكاة الاسلامية

التصانيف

اقتصاد