يصعب الفصل بين رؤية تيار سياسي أو فكري وبين أشخاص القائمين عليه، ولكن يجب ألا يستغرقنا ذلك لدرجة يصعب معها تقديم فكرة أو نقد ومراجعة بمعزل عن اتجاهات مسبقة أو انتماء جغرافي أوسيرة شخصية، وهذا ما واجهته في مقالتي عن اليسار الاجتماعي. وبخاصة أن الغد نشرت مقالة مطولة للسيد هشام البستاني والذي افترض على نحو يبدو بديهيا أن حركة اليسار الاجتماعي في الأردن هي حركة قطرية بالمعنى الذي لا يضيف إليه شيئا كونها يسارية، وقد واجهتها من قبل مرات عدة في الحديث عن التيار الوسطي المعتدل في الحركة الإسلامية والمصنف على نحو نمطي جارف بأنه تيار قطري لا يضيف الاعتدال والوسطية شيئا إلى هويته وأفكاره.
ويجب أن نعترف أنه توجد لدينا في الأردن حالة أزمة كبيرة في الهوية تمنع الحوار والتقييم الصحيح والمراجعة وتستحضر كل النزعات البدائية لإجهاض التنافس المفترض بين الأفكار والاتجاهات وتفشل التجمع الممكن على أساس من المدن والمحافظات والمصالح والمهن والأعمال والخدمات الأساسية، فيتحول الاختلاف حول الخصخصة ودور الدولة في الاقتصاد على سبيل المثال إلى نزاع قبلي وجهوي ويبتعد سريعا عن جوهره ومعناه وهدفه المفترض.
وبالطبع فإن هذه المقولة لا تنفي الرغبة الصادقة لدى معظم المواطنين كما لمست في النقاشات والحوارات اليومية بتجاوز هذه الأزمة التي تعوق التنمية والإصلاح وتفشل الأفكار والمعارضة والرقابة الشعبية والإعلامية.
ولكن الأخطر من ذلك كله أنها تحول العمل السياسي والعام إلى تجمعات بدائية، ولنتخيل الخطورة والكارثة عندما تتحكم أفكار وأدوات التجمع لمرحلة ما قبل التاريخ بالمؤسسات والأفكار والمدن والتجمعات في مرحلة نهاية التاريخ!
يفترض أن المكان يمنح لمواطنيه هوية مشتركة ومجموعة من الهويات الفرعية، وهذه الهوية بمعنى رؤية الذات كما يراد للآخر "هو" أن يراها ويعترف بها، هي التي تقود الإصلاح والتقدم والتنافس والتعاون، لأن شيئا من ذلك لا يمكن أن يحدث بدون هذا الشعور بالهوية، كيف نتوقع للبلديات أن تنجح في تنظيم الخدمات والمرافق بدون وعي مسبق للناخبين يحركهم ويجمعهم على أساس هذه الأفكار؟
وكيف نتوقع من أصحاب المهن والأعمال أن يطوروا أعمالهم ونقاباتهم ومشاركتهم في المجتمع وفي الحياة الاقتصادية بدون إدراكهم لهويتهم وعملهم على هذا الأساس وليس على أساس قبائلهم أو القرى التي ولد فيها آباؤهم والتي ربما يكونون لا يعرفون عنها شيئا ولم يزوروها في حاياتهم؟
كيف يمكن أن يكون تنظيم العلاقة بين المواطن والسلطة على أساس أنه دافع للضرائب يوكل الحكومة لتحقيق مصالحه وليست علاقة بين مناصب تأتي بالوراثة أو القرابة وبين مواطنين محكوم عليهم بالتهميش والتبعية وقلة الحيلة؟ كيف يمكن الخروج من حالة فريدة لدينا في الأردن وهي تلك النسبة الكبيرة من المواطنين الذين وإن كانوا يريدون أن يتمتعوا بكل حقوق المواطنة ومزاياها من الفرص والوظائف والأعمال فإنهم أيضا لا يريدون المشاركة في الحياة السياسية وتشكلات التأييد والمعارضة والتجمع والمطالبة.
هذه الحالة الأردنية تعطل الحياة السياسية والثقافية وتحملها بأقدار هائلة من الخواء، وتجعل المشاركة السياسية أو الثقافية أو الاجتماعية وحتى الفنية والموسيقية محفوفة بالعبثية، وتنطوي على كثير من الاستفزاز وغياب المعنى والهدف، وتفسر غياب قيام تجمعات سياسية ومهنية على أساس من المصالح والأهداف العملية، وعجز البلديات ومؤسسات الحكم المحلي عن استيعاب الناس على أساس المكان والخدمات الأساسية، وتبرر لماذا تفشل المؤسسات التعليمية والصحية العامة ولكنها ناجحة في دول تطبق الليبرالية الاقتصادية.

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  ابراهيم غرايبة   جريدة الغد