الجرائم التي تقع بيننا – وهي على درجة من الخطورة والغرابة تفوق ما يجري في الولايات المتحدة، البلد الذي يعتبر الأكثر جرائم- هي واحدة من الأعراض التي تؤشر على مشكلة يجب فهمها، إنها واحدة من مظاهر التعبير عن المشكلة، مثلها مثل ارتفاع درجة الحرارة أو الصداع، فكما أن الصداع ليس في أكثر الأحيان مرضا بحد ذاته ولكنه مؤشر على مرض آخر تجب معالجته، فإن جريمة أبو علندا وقبلها جرائم أخرى كثيرة يجب أن تؤسس للمعرفة والبحث وفهم أزمتنا الحقيقية، وأعلم بالطبع أني لا أكتشف شيئا جديدا، وأني أشارك وأتبع الكثيرين ممن كتب وعلق حول الجرائم التي تحدث، ولكنها مناسبة للتذكير بتحديات كبرى تواجهنا أظن أننا لا نتعامل معها بالجدية والاهتمام المكافئ لها، وربما لأجل ذلك وأرجو أن أكون مخطئا ستتواصل هذه الأزمات وتتكرر وتزيد.
تنشئ المدن أنساقا معقدة وعملاقة من المرافق والمصالح والعلاقات، ولكن مخططي المدن يغفلون التخطيط الاجتماعي والثقافي الذي يجب أن يصاحب تخطيط المدن، وأعتقد أن ثمة قدرا كبيرا من الوعي المسبق أو التخطيط بالفعل لعدم التخطيط الاجتماعي والثقافي انسياقا لمجموعة من الاعتقادات والمصالح المرتبطة بها بأن المجتمعات والثقافات تكيف نفسها وتعيد تنظيم نفسها تبعا للسوق، وهي خرافة بالغة المكر والسوء، ففي الوقت الذي تخطط فيه الأسواق والأعمال والمرافق، ولم تترك للناس لتنظيمها وصياغتها بتلقائية، فإن المجتمعات تخضع لتدخلات مقصودة وغير مقصودة لتكريس العشوائية الاجتماعية والثقافية.
فالمجتمعات التي خطط لها قسرا بلا مشورة أو عفوية الأسواق والأعمال وأنماط الإقامة والسكن واللباس والطعام والذوق والعمل وأسلوب الحياة لم تمنح أي خيار في تنظيم نفسها على النحو الذي يمكنها من إدارة احتياجاتها الأساسية والتخطيط لها والرقابة عليها بفعالية، ولم تترك لها أيضا فرص التكيف العفوي والتلقائي لتنظيم نفسها وحمايتها، ولكنها عرضت لعمليات تنميط وتشكيل مقصودة.
التفكك الأسري والغياب الطويل عن البيت والضغوط والتوتر والكلفة المرتفعة للمعيشة والترفيه وصعوبة وربما استحالة إقامة حياة طبيعية للأطفال والأسر والأفراد ليست قدرا حتميا في المدينة، بل العكس هو الصحيح فالمدن قادرة على أن تكون أكثر دفئا وتقاليدية من الريف والبوادي، ولكن الفرق بين الريف والبادية أن نمط المعيشة يتيح تكيفا اجتماعيا وثقافيا تلقائيا من غير تخطيط، ولكنه في المدينة لا يمكن الحصول عليه تلقائيا ويحتاج إلى تخطيط مسبق، وهنا تنشأ الأزمة في التكيف ومواجهة المتطلبات الجديدة وتداعياتها.
يمكن النظر على سبيل المثال إلى ما حدث في العراق بعد انهيار الدولة عام 2003، فقد تحولت المدن إلى ساحات للفوضى والنهب، ولكن لم يحدث مثل ذلك في الريف، والسبب ببساطة أن المدن يرتبط وجودها وازدهارها بمنظومة مؤسسية تحميها، هذه الحماية التي تمتعت بها المدن ليست تلقائية ناشئة عن العلاقات العشائرية وما يتبعها من ثقافة وقيم كما يحدث في الريف.
وبطبيعة الحال فإن المجتمعات ستلجأ لحماية نفسها ومواجهة التهديد والضآلة والخوف وإغواء المدينة وتطلعاتها إلى حيل شتى، أهمها وأسهلها هو استحضار الروابط والأدوات الريفية في العلاقات والثقافة والقيم ومحاولة تطبيقها، ولكن ذلك يزيد الأزمة، لأنها أدوات ليست مستقلة بذاتها وليست أفكارا مجردة ولكنها مرتبطة حتما بأساليب الإنتاج والحماية والملكية في الريف، فلا يمكن تنفيذ سلطة الكبار على صغار يعيشون في عالم آخر يقدم أفكارا ومعطيات مختلفة تماما عما تلقاه الكبار، ولا يمكن إجبار الزوجة المستقلة في عملها ودخلها أو الأبناء الذين يعملون ويعيشون مستقلين على نمط من السلوك والثقافة لا يريدونه ولم يتعرفوا عليه ابتداء، ففي العمل والمدارس والجامعات تتشكل معارف وعلاقات وأفكار لا علاقة للوالدين والكبار والعشيرة بها.
السؤال هو كيف ننشئ منظومة اجتماعية وثقافية مدينية خاصة بالمدن، وتحمي المجتمع وتمنح الأفراد الرضا والاندماج؟
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة ابراهيم غرايبة جريدة الغد