مازالت إسرائيل ضحية انتصارها في حرب 1967، هذه الحرب التي أدخلت العرب وإسرائيل معا في مأزق يقود إلى متوالية من الصعوبات والأزمات، فهذا الانتصار الخاطف الذي استدرج إليه الجنرالات الإسرائيليون متحدين القيادة السياسية بناء على صورة واضحة لديهم أن العرب غير قادرين عسكريا على خوض الحرب وأن فرصة الانتصار عليهم عسكريا مؤكدة، ولكنه في الوقت نفسه أدى إلى حالة داخلية جديدة في إسرائيل والدول العربية وسياسية إقليمية وعالمية غير مستقرة.
بالنسبة لإسرائيل فإنها بعد ستين عاما من قيامها تواجه حالة من الكراهية يصفها أحد المفكرين الإسرائيليين بأنها تذيب الصخر، وفي الوقت نفسه فإنها أصبحت غير قادرة على الاعتماد على الجاهزية العسكرية الدائمة، فالأجيال الجديدة لا تحمل الدرجة نفسها من الاستعداد والدوافع التي كانت لدى الجيل المؤسس، ومن ثم فإن الاستراتيجية الإسرائيلية يجب أن تتجه حتى من وجهة نظر مسؤولة نشأت في بيت ليكودي وعملت في الموساد (تسيبي ليفني) إلى حالة من القبول والتعايش، وأظهرت الحرب الإسرائيلية في لبنان صيف العام 2006 أن الحرب لم تعد خيار أحد في إسرائيل، ولم يعد الإسرائيليون يرغبون في البقاء في حالة حرب وعداء مع الجوار، وعلى مستوى الرؤية التاريخية فإنه لم يعد ممكنا كما تقول ليفني أن تستمر حالة شعب يحكمه شعب آخر، ولا أن تواصل إسرائيل إلى الأبد حالة من الاستنفار والاعتقالات الواسعة والمواجهة الشاملة، فهذا لم يؤد فقط إلى الإعياء وإنما إلى انهيار الشراكة مع الفلسطينيين وفرص امتدادها إلى العرب.
وتواجه إسرائيل اليوم ظواهر جديدة داخلية اجتماعية وسياسية تمثل تحديا كبيرا يفوق تحدي المقاومة الفلسطينية، وهذه الظواهر تهدد إسرائيل في وجودها وهويتها وتتناقض مع الرواية المنشئة لها، بل إن إسرائيل اليوم ليست هي إسرائيل التي كان يريدها ديفيد بن غوريون، فالمهاجرون الجدد وبخاصة الروس يشكلون حالة من النشاز والانقسام الإسرائيلي غير المسبوق، بل أن الشراكة الفلسطينية الإسرائيلية واندماج الفلسطينيين في إسرائيل يفوق بمراحل متقدمة المشاركة والاندماج الروسي والإثنيات الأخرى للمهاجرين، وهي حالة لا تؤدي فقط إلى الانقسام والتمزق الإسرائيلي بل وتحول هويتها وثقافتها، فالإسرائيليون من اليهود الشرقيين والغربيين المؤسسين وأبنائهم يشعرون أن الفلسطينيين أقرب إليهم من الروس والإثنيات الأخرى، والمافيا الروسية في إسرائيل تكاد تكون قوة سياسية واقتصادية رئيسية، ومازالت علاقة الروس (وكثير منهم ليسوا يهودا أو فقدوا يهوديتهم تماما) بروسيا بما في ذلك التجسس لصالح المخابرات الروسية أقوى بكثير من علاقتهم بإسرائيل.
وبرغم أن إسرائيل دولة يهودية فإن اليهودية في الرواية المؤسسة هي هوية سياسية وليست ثقافة وسلوكا اجتماعيا وسياسيا، فهي نشأت وكان يراد لها أن تكون دولة علمانية على الطراز الغربي، وتمثل اليهودية فيها رابطا سياسيا وثقافيا يشبه حالة الإسلام في كوسوفو والبوسنة وألبانيا، ولكن الصعود الديني الكبير اليوم في إسرائيل يهدد بتحولها إلى دولة دينية يحكمها الحاخامات ورجال الدين ويحولها إلى ما يشبه أوروبا في العصور الوسطى، وهذا سيبعدها عن محيطها الغربي والعلماني ويجلعها متناقضة معه جذريا، ويؤدي إلى قسمة الإسرائيليين تقسيما عميقا سيؤدي مع الديمقراطية والتعددية الإثنية إلى نشوء مجتمعات إسرائيلية متعددة ومتباعدة ومعزولة عن بعضها نهائيا، وهي حالة تؤسس لحرب أهلية قادمة، وتتحول إسرائيل إلى دولة متعددة الطوائف والمجتمعات وقابلة للاختراق والاستقطاب والتفسخ والذوبان، وهذا ما يحذر منه اليوم اليهود غير الصهاينة، وهم تيار سياسي وديني صاعد ويتزايد عدد مؤيديه، وهم يحذرون من أن إسرائيل والصهيونية تشكلان خطرا كبيرا على اليهود واليهودية.
الجديد اليوم هو أن هذه الرؤية لم تعد مجرد نظرية فلسفية وفكرية ولكنها تتحول إلى قناعة سياسية لدى النخب الإسرائيلية، ويرى مفكرون وقادة إسرائيليون اليوم أن تخلي العرب والفلسطينيين عن مشروع تدمير دولة إسرائيل يعتمد على تغيير الإسرائيليين وليس تغيير الفلسطينيين والعرب.
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة ابراهيم غرايبة جريدة الغد