نحن قلقون وإن لم يكن اقتصادنا في غرفة الإنعاش بل في العناية المتوسطة، أو حتى فقط في العيادات الخارجية بانتظار دفعة مساعدات جديدة يبدو أن الحكومة متيقنة من مجيئها.
المسألة ليست (أو ليست فقط) أزمة اقتصادية طارئة امتدادا لأزمة عالمية عبرت الدول والحدود، فهناك تشوه داخلي عميق في الاقتصاد الوطني يجب القيام بمعالجة جذرية له كعملية كبرى من مستوى عملية قلب مفتوح. وهذا لم نره في الموازنة التي اكتفت بتقليم النفقات، ووصفها رئيس الوزراء بأكثر الموازنات تقشفية في تاريخ المملكة. قد تكون، لكنها قطعا ليست الأكثر اختلافا، بل هي امتداد أصيل للنهج الذي قاد إلى التشوه العميق في الاقتصاد، والمسؤول عن مصائب أخرى منها اتساع الهوّة الطبقية، وإثراء فاحش للأقلية على حساب الأغلبية، وإفقار الدولة ووضعها في مأزق.
لنضع جانبا الإنشاء والبلاغة واللطم والعويل التي حفلت بها الكثير من كلمات النواب في نقاش الموازنة، لكن كانت هناك مداخلات غاية في الجرأة والعلمية، تبين حقائق ومعلومات عن دور الفساد والسلوك المنحرف لمسؤولين في ما آلت إليه الأوضاع. ومع الأسف، فإن الصحف تجنبت أخذ المقتطفات من هذا الجزء من الكلمات. وعلى سبيل المثال، لم أقرأ شخصيا أي شيء عن النقد الواضح وغير المسبوق لتقديم موازنة الدفاع رقما أصمّ بلا تفاصيل! ناهيك عن أن التناسب بين النفقات المدنية والعسكرية يكاد لا يكون له مثيل بين الدول، مع تقديرنا لدور الجهاز العسكري تاريخيا في المجتمع الأردني، بتحمل حصّة رئيسة في الرواتب والتقاعدات والصحة والتعليم وغيرها. وقد بينت الكلمات دور الفساد في إفقار الموازنة على مدار أعوام، وخصوصا مع مشاريع الخصخصة وما بعدها، والفوسفات طبعا هي النموذج الأبرز؛ فقد بيعت حصّة الدولة بمائة مليون، ليضيع عليها مئات ومئات الملايين في السنين اللاحقة. كانت هذه تجارة الدولة الخاسرة بقيادة "الليبرالية الجديدة"، بالتزامن مع سلطة أمنية متغولة قدمت الحماية لهذا النهج، في الوقت نفسه الذي دخلت معه في منافسة غير شريفة على السلطة.
مصادر واردات الدولة تمثل نموذجا آخر على التشوه العميق؛ إذ تتراجع ضريبة الدخل، وهي أداة رئيسة للعدالة وتوزيع الأعباء وفق الدخول، إلى نسبة تساوي ربع ضريبة المبيعات التي تفرض على السلع والخدمات وتطال الجميع بالتساوي. ونحن، بالمناسبة، من أدنى دول العالم بلا استثناء تحصيلا لضريبة الدخل، ومع ذلك تواصل السياسة المالية نفس النهج. وعلى جبهة أخرى، تشكو الحكومة من أن حجم الدعم للمحروقات والطحين والأعلاف وبقية المواد يصل إلى 450 مليون دينار، ويذهب لمن يستحق ولا يستحق، بما في ذلك أكثر من مليون أجنبي في الأردن! ولا تقدم بديلا لتوجيه الدعم لمستحقيه، ولم تقدم مثلا مشروع البطاقة الذكية. والمرجح أن الحكومة ستذهب كالعادة باتجاه رفع الأسعار وتقليص الدعم، وهي بدأت بالكهرباء، وربما غدا بالمشتقات النفطية.
الاقتصاد ليس في غرفة الإنعاش، لكنه يحتاج إلى عملية كبرى.
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
جريدة الغد جميل النمري صحافة