لدى الناس في بلادنا اليوم “قابلية” لتصديق أية تهمة بالفساد، لدرجة أصبحنا فيها نعتقد أن كل مسؤول هو مشروع فساد ،حتى وإن ثبت عكس ذلك، والمشكلة -بالطبع- لا يتحمل وزرها الناس فقط ، بل تتحملها سياسيات عامة وإجراءات رسمية وقفت عاجزة عن فتح ملفات الفساد والتحقيق فيها بجدية ثم تقديم الفاسدين الحقيقيين للقضاء كي ينالوا ما يستحقونه من حساب، ما أكد لدى الكثيرين قناعة (تعمَّدنا ربما ترسيخها )بأن الفساد أصبح أكثر وقاحة مما نتصور.. وأننا لم نستطع – بعد - “كسر عينه” كما يجب.
لاتقل لي إن مئات الملفات فتحت واننا اكتشفنا ان معظمها كيدية ، ولا تقل لي ايضا إن احكاما صدرت ضد الفاسين وان بعضهم حوكم وأودع السجون، وأرجو ألا تذكرني ايضا بأن معظم الاتهامات بالفساد انطباعية ، وان لدينا هيئة متخصصة في مكافحة الفساد ولا شغل لها سوى التحقيق فيما تسمعه أو يصلها من شكاوى ومعلومات حول هذه “البلوى” التي اصابت مجتمعنا ، فأنا مثلك تماما أعرف ذلك وأفهمه ، لكن يكفي أن تدلَّني فقط على ما يمكن أن أرد به على اسئلة الناس حول القضايا الكبرى التي خرجت منها رائحة الفساد، لا احتاج لتسمية الاشخاص والشركات ،فقد اصبحت عناوينها معروفة للكثيرين ،لكنني اذكر فقط أن الناس لم تقتنع بعد بأن إرادة مكافحة الفساد وإعادة الأموال المنهوبة كانت جادة وحقيقية ، وبالتالي فإن لديهم احساسا عميقا بأن ما حدث كان مجرد رسائل تطمين استهدفت فتح الملفات لتكييف إغلاقها ، وان الموضوع خرج من الأدراج ثم اعيد اليها مرة اخرى. واللافت في “التحقيقات” التي انطلقت على أكثر من صعيد لفتح ملفات “الفساد” ان الشهود حضروا، فيما غابت أسماء المتَّهمين، وان فتح “الملفات” كان لمجرد فتحها فقط، أو لمجرد تقديم “أكباش” على قارعة الإصلاح وقد تسبب اعتماد هذه “المنهج” بإشاعة مزيد من الشائعات و الاحتقانات وعندها سمحنا لـ “الفاسدين” أن يهربوا أو ينتصروا ما دام لديهم “العدة” اللازمة لمواجهة هذه “الانتقائية” في المحاسبة.
قلت حين انطلق مارثون مواجهة الفساد قبل نحو ثلاثة أعوام إن لدى “الناس” اسماء محددة عن “الفاسدين” وتفاصيل عن ممارساتهم وتجارب “النهب” التي تورطوا فيها، لكننا لا يمكن ان نطمئن لهذه “الأحكام” التي تصدر في الصالونات والشارع ما لم تحضر الأدلة والبراهين والقرائن، وهذه وظيفة العدالة التي يفترض ان تقام موازينها باستقامة ووضوح، كي نتجنب “عواصف” الشائعات واغتيال الشخصيات وخلط الاوراق ، وقلت حينئذ –أيضا- إن الصراع على ملف “الفساد” أصبح بيد “الفاسدين” انفسهم، لهذا نخشى أن تتحول المعركة ضد هؤلاء الى “فخ” لا نعرف كيف نخرج منه، واذا سألتني كيف؟ سأقول لك إن بعض القضايا التي تطرح في الإعلام أو حتى في الشارع ليست اكثر من “مكائد” رتبها بعض المتورطين في الفساد لإشغال الناس بها او لتصفية حسابات بينهم او لتضخيم “الظاهرة” بحيث يبدو من المستحيل معالجتها، ناهيك عن تصريحات “تحذيرية” سمعنا بعضها تهدد وتتوعد “بكشف” المستور أو توريط الجميع على قاعدة “عليّ وعلى أعدائي” وهذه كلها مجرد مناورات يائسة يريد “الفاسدون” من خلالها أن يأخذونا الى مكان آخر أو أن “يوجهوا” نقاشنا حول “الفساد” او دعواتنا لمحاكمته إلى “أجندات” صمموها وغايات ومقاصد غير بريئة ايضا.
حين صدمنا رئيس هيئة مكافحة الفساد السيد بينو بتصريحاته التي اعترف فيها بأن” مراكز قوى متنوعة تغوَّلت وزرعت بذور الفساد في البلد وهيأت بيئة لتكاثر الفاسدين والمرتشين وغضت الطرف عن ممارساتهم وجيَّشت إعلاما مدفوع الثمن للدفاع عن ممارساتهم والتغني بإنجازاتهم وتبييض صحائف تاريخهم” اعتقدنا أننا امام مرحلة جديدة من المكاشفات والمحاسبات وأننا سنرى رؤوسا كبيرة في قفص الاتهام وامام العدالة ، لكن الرياح على ما يبدو سارت بما لا تشتهي السفن
|
أمس الاول -مثلا- تابعنا عددا من النواب يشهرون بعض ملفات الفساد لمسؤولين في سلطة إقليم العقبة، ولأننا مثل غيرنا من المستمعين مصابون بـ”فوبيا” الفساد ومستعدون -لا شعوريا- لتصديق اية رواية عنه، أخذنا المسألة على محمل الجد، وترددت داخلنا صرخات مكبوتة لم نستطع تصريفها إلا بـ”الأمل” وانتظار ان يبادر اخواننا النواب الى تقديم ما لديهم من معلومات الى النائب العام ، مع معرفتنا ان العدالة يجب ان تتحرك على الفور للتحقيق فيما قيل دون طلب من احد، لكن سؤال العدالة هذا ما زال يطاردنا حينما نفتح الكلام على الفساد ، على اعتبار ان الجهة المخولة بالتحقيق والمحاسبة هي القضاء والقضاء فقط .
لا نريد أن نستبق التحقيقات لكن علينا أن نتذكر دائما بأننا ندافع عن الحقيقة ونريد ان نعرفها ،لا يهمنا هنا الحسابات السياسية ، ولا اشتباكات المصالح ، ما يهمنا فقط ان نتوافق جميعا على ان “القضاء” هو الجهة الوحيدة المسؤولة عن ملفات الفساد “صغيرة كانت أم كبيرة، وبأن على اخواننا الذين لديهم اوراق او أدلة على شبهة فساد ان يذهبوا على الفور الى قصر العدل ، لأننا بصراحة مللنا من متابعة هذا المسلسل الطويل، ونريد ان نطمئن أن ما نسمعه يستحق ان نسمعه ونناقشه ، والأهم أن نرى من اخطأ بحق مجتمعنا واعتدى على اموالنا وسرق أعمارنا ينال ما يستحقه من جزاء، لا شتائم فقط.
حسين الوراشدة
المراجع
ainnews.net
التصانيف
صحافة حسين الرواشدة العلوم الاجتماعية
|