لا يكفي ان نعتمد على استطلاعات الرأي (مهما كانت درجة صدقيتها) لكي نطمئن على اننا لا نسير في الاتجاه الخطأ ، صحيح ان لدينا تجربة غير موفقة مع هذه الاستطلاعات ،وصحيح ان الناس تقرأ ما يدور على الارض لا ما تحمله السطور والارقام من اشارات ودلالات ،لكن الصحيح والاخطر ايضا ان الاغلبية في بلادنا فقدت ثقتها بما يصدر من دراسات وقرارات واجراءات ، كما انها استقالت من السياسة ايضا.
في هذا الاطار،ربما ، يمكن ان نشير الى مسألتين احداهما : ان الارقام والبيانات المغشوشة لا تتعلق فقط بالاستطلاعات ولا بحجج رفع الاسعار والضرائب ولا بتجاربنا الفاشلة في تقديرحجم الانجاز ونسب النمو ولا باقتاع الناس بخطأ انطباعاتهم عن واقع البطالة والفقر الذي يرونه ويعيشونه ،وانما ايضا بارقام اخرى مغشوشة تتعلق بالسياسة والاعيبها:فثمة اغلبية صامتة لا تريد الاصلاح،واقلية خرجت الى الشارع للاحتجاج،وثمة ارقام مضللة عن عدد سكان الاردن بعد موجة اللجوء التي تعرضنا لها ،وارقام عن عدد الاردنيات المتزوجات من غير الاردنيين ،واخرى عن وزن بعض الاحزاب في الشارع “وحصصهم”المتوقعة في الانتخابات :اي انتخابات ، والسياسة هنا (وهي توظف كل ما لديها من امكانيات) “تلعب” بالارقام كما تريد ،بل وتتعامل احيانا مع المواطن وكأنه رقم قابل للتوظيف والاستخدام،واحيانا للشطب والحذف ايضا. اما المسألة الاخرى فهي ان اخطر ما يمكن ان يصل اليه الناس هو فقدان الثقة ، فقدانها بنخبهم ودعواتها ، وبالحكومات ووعودها ، وبالمجتمع الذي يحاول البعض ان ينتقم منه وينتقم من نفسه ايضا ، وبقطار الاصلاح وحركة عجلاته والسكة التي يسير عليها .وفي هذه اللحظة بالذات (لحظة فقدان الثقة)تسقط معادلة حسابات الخسارة ، وتتراجع رهانات الاعتماد على صبر الناس وتناقضاتهم الاجتماعية ، وعلى قدرة الاحزاب والنخب على ضبط الايقاع ، وتصبح الحكومات وجهاً لوجه أمام قوى جديدة مجهولة بلا رأس ، ولا اجندات محددة ، ولا سقوف معتبرة ، تريد ان تحقق احلامها حتى لو كانت مستحيلة.
اذا اضفنا لذك ما تضمره الاستطلاعات والوقائع من اسئلة حول استقالة “الناس” من السياسة وحول معنى ضعف المؤسسات والأحزاب، و جدوى تكسير “الوسائط” الاجتماعية والنخب الفاعلة والنزيهة، وعن نشوء طبقات جديدة من “الانتهازيين” وعن شيوع ثقافة “اكسب واهرب” وعن تراجع هيبة الدولة في عيون الناس، ستكتشف أن الدولة أكلت ابناءها.. ونسبت اليها ابناء جددا لم يخرجوا من رحمها للأسف.
ان مجرد التفكير بأن احتجاجات الناس ومطالبهم لم تنته بعد، وبأن الهدوء على جبهتها ليس اكثر من حالة انتظار، يعني لمن يريد ان يفهم ويعالج مسألة واحدة وهي: التحذير من الاطمئنان الى هدوء الشارع وعدم الرهان عليه، خاصة اذا فهم هذا الهدوء في سياق اعطيناهم ما يلزم، وقدمنا لهم كل ما يريدونه، فيما الحقيقة ان ما حصل - حتى الآن- لا يتجاوز النوايا الطيبة، وهي -كما رأينا- مقدرة ومطلوبة، لكنها لا تكفي اذا لم تقترن بالتنفيذ والتطوير والسرعة ، وبما يناسب تطلعات الناس واحلامهم.. وما يحتاجونه من اصلاح يتجاوز منطق الترقيع الى التأسيس ، ومنطق الطلاء الى البناء.. ومنطق بيع الوقت وشرائه الى الاستفادة منه واستثماره في تصحيح الرؤية، وتحديد الهدف، واعادة اتجاه البوصلة الى السكة الصحيحة.
في لحظة ما كنا نعتقد ان لواقط المسؤولين اصبحت مفتوحة وجاهزة لاستقبال ذبذبات الناس وشكواهم ،وان بمقدور بلدنا ان يقفز بسهولة من فوق حواجز النوازل التي اجتاحت عالمنا العربي ، وكنا نراهن على ان ما حدث في عالمنا العربي من مد وجزر سيلهمنا الدليل والشاهد للتبصر في مواطئ اقدامنا ورؤية واقعنا وحاضرنا ، لكي نستعيد ثقة الناس وقبل ذلك لكي نحيي داخلهم الامل والهمة ونستوعب طاقاتهم في مشروع وطني يشارك فيه الجميع ، مشاركة الجزء في المجموع لا التابع للمتبوع ، لكن الذي حصل اننا توقفنا فجأة ،وكأننا قمنا بالواجب وانجزنا المطلوب.
لم تكن “مهمة” الاصلاح صعبة او مستحيلة لكننا -للاسف- “عقّدناها” اكثر مما يجب وتعاملنا معها بالتهوين احيانا وبالمبالغة احيانا اخرى، انتصرنا “لصوت” اهل الثقة ولم ننصت لصوت اهل الكفاءة، لقد اضعنا “فرصة” وصار لزاما علينا ان نستدرك خطأ اضاعتها قبل ان يفوت الاوان.
ما زال لدى “الناس” امل في الخروج من حالة “”الانسداد “ ومن الخوف والاحباط والانتظار الى واقع يكون فيه الاصلاح “حيا” يمشي على قدمين، سواء في الممرات الاقتصادية الصعبة او في ملفات الفساد “المعطلة” او في ممارسات ومقررات تطمئن الناس على حاضرهم ومستقبل ابنائهم، انهم لم يفقدوا الامل بعد.. رجاء لا تدفعوهم الى اليأس والاحباط.
لا احد بالتأكيد يريد ان يصل الناس الى اليأس؛ هذا خط احمر يجب ان يضعه المسؤول على رأس أولوياته ويجب ان نتكاتف جميعا لبناء ما يلزم من مصدات لتجاوز الوصول الى هذه اللحظة.
المراجع
جريدة الدستور
التصانيف
صحافة حسين الرواشدة جريدة الدستور