حسين الرواشدة
ما سرّ التدهور الذي اصاب الخطاب الديني خلال المائة عام الماضية؟ يتساءل الكاتب جلال امين ثم يجيب: النمو المذهل في اعداد انصاف المتعلمين ، كان المجتمع ينقسم الى اقلية صغيرة جدا من المتعلمين “ولكنهم متعلمون تعليما راقيا” وغالبية عظمى من الاميين “ولكنهم اميون يعرفون قدر انفسهم” ، لا مطامح لهم وليس لديهم اية ادعاءات بغير الحقيقة والباقون صامتون لا يحدثون ضجيجا ولا يشوشون .. الآن لدينا ملايين من انصاف الذين يمارسون ارهابا ضد المثقفين والاميين على السواء.. وهم يسيطرون الآن على الخطاب الديني ويطبعونه بطابعهم.
المسألة - بالطبع - لا تتعلق بالخطاب الديني وانصاف المتعلمين الذين سيطروا عليه وانما يتعلق بالخطاب السياسي والثقافي والاجتماعي هذه ايضا تراجعت للاسف ، واصبح “الانصاف” هؤلاء يتحكمون بها ويحركونها في اي اتجاه يريدون..كيف حدث ذلك؟ اعتقد ان وراء هذا التدهور فهم مغلوط لوظيفة كل من الدين والثقافة والسياسة فنحن -مثلا - نختزل “تديننا” في المظاهر والشعائر ونعبد الله وتقرب اليه بأجسادنا لا بقلوبنا ولا نربط بين علاقتنا به تعالى وعلاقتنا مع عباده وبالتالي يبدو ايماننا معزولا عن افعالنا وما تلهج به السنتنا مفصولا عما تمارسه جوارحنا ونحن -ايضا - في ميادين الثقافة والسياسة نمارس الانماط ذاتها ، فالسياسة لدى بعض فقهائها نقيضة للاخلاق ، والثقافة هروب من الواقع ، والفاعلون فيهما قادهم الاعجاب الى الزواج وتركوا جمهورهم غارقا في مستنقع الجدل ومكبلا بحيل الشد والجذب بين وهم الخيارات وكذبة الاضطرارات.
مع غياب “الاخلاق” والانشغال بالمباني على حساب المعاني والقيم ظهرت نخب “انصاف”المتعلمين ، ونخب “الكسب السريع” ونخب “نجوم الشاشات” فتراجعت قيم النظافة والاستقامة وتكسرت منظومة الحياء العام وتغير مزاج الناس ، واختلطت معايير الاحكام وموازين الافكار ، وبذلك لم يعد المجتمع يعاني من حالة “التسفل” التي اشار اليها الافغاني حين ربط انهيار الاخلاق بالاستبداد ، وانما يعاني -بوصف احد الباحثين النفسيين - من حالة “انحدار” جنوني لا يمكن تفسيره او فهمه.
الامثلة على ذلك كثيرة ، في مجال التدين - مثلا - ثمة اقبال لافت على المساجد وعلى ممارسة الشعائر ، لكنه “اقبال” سطحي مقياسه الكم لا النوع ، والشكل لا الجوهر ، فالذين يمارسون “الورع” في المسجد يتركونه هناك ولا يخرج معهم الى الشارع ، وهم ملتزمون دائماً بواجباتهم الدينية “الحرفية” لكن دون تغيير واضح على سلوكهم او تعاملهم مع الآخرين ، وسواء أكان ذلك فهماً مغلوطاً لمعنى الدين ووظيفته ام “استجابة” لما يحيط بهم من “ملوثات” ام بسبب تراجع القيم والاخلاق (التي هي جوهر الدين) لحساب الشكليات ، فان النتيجة واحدة: تدين مظاهري وورع سطحي لا ينتج ولا يؤثر.ربما تكون ايضاً “حالة” النفاق العام التي سيطرت على مجتمعاتنا ، سواء في مجالات التدين او الثقافة او السياسة ، مسؤولة عن هذا التدهور ، والنفاق هذا لم يعد مقتصراً على علاقة الناس ببعضهم ، كوسيلة للكسب والترقي المادي والاجتماعي ، وانما أصبح يطبع علاقة الناس بخالقهم ، وهذا اسوا ما يمكن ان يحدث على صعيد “الامراض” التي تصيب الاخلاق ، وتفقدها أبسط ادوارها المناعية او الرقابية.
وكالة عمون الإخبارية
المراجع
ammonnews.net
التصانيف
صحافة حسين الرواشدة الآداب مقالات أدبية