حسين الرواشدة
فيما يبدو العالم مشغولا بقضاياه الكبرى ، ومستغرقا في البحث عن اجابات حقيقية للمشكلات التي يواجهها ، اختارت بعض دولنا ومجتمعاتنا العربية العودة مجددا الى عصر الجدل والكلام ، ايام كانت مدرسة “الكلاميين” في اوج نهضتها ، مشغولة بإثبات الاسماء والصفات ، وتبادل الردود والصراعات ، ويا ليت ان مدرسة “الكلاميين” الجدد ، التزمت بما التزم به “القدامى” من ادب في الحوار ، وعفة في الطرح ، وانتصار للعقل واحترام للذوق العام ، لو حصل ذلك ، لاعتبرنا ان التفريط بالكلام وتجاوز “الاولويات” وهدر الوقت بما لا ينفع ، جزء من “عموم” البلوى التي تحتاج الى “فقه” جديد يتعامل معها على قاعدة “الاستطاعة” والتدرج في التصحيح ، لكن لم يخطر في البال ان ينتهي هذا “الانشغال” الى الافراط بكل شيء ، وان يصل الى هذه الدرجة من المهانة والاسفاف والفقر ، لا على مستوى المضمون فحسب وانما اللغة واسلوبها ايضا.
لا يتسع المجال لاستعراض “المعارك” التي انشغلنا بها ، وما نزال نتساجل حولها ، لكنها تشير الى حالة عامة من “الافلاس” القيمي والحضاري لها - بالطبع - اسبابها وجذورها ، ولها - ايضا - مستثمروها المستفيدون من تأجيجها ، كما اعد لها ضحاياها ، واولهم هذا “العقل” الذي اصابته سهام الزجر والتخويف ، وعطلته عن ممارسة وظيفته الاساسية مقولات الحذف والاقصاء ، وافرغت حيويته عروض ما تبقى في مجتمعنا من نزعة - فطرية - للعمل والانتاج.
في وقت مضى ، كنا نتندر بمن يسأل عن حكم دم البعوضة فيما كانت دماء المسلمين تسيل في ميادين “الفتنة” بينهم ، وعمن يسأل عن عدد الشياطين التي تقف على حبة الشعير ، فيما كانت “القسطنطينية” تواجه جيوش الروم ، اما اليوم فما اكثر الاسئلة التي تطرح على مهاراتنا الفكرية والسياسية والاعلامية حول قضايا “ادنى” من ذلك ، فيما تواجه بلداننا سؤال ان تحفظ كرامتها ام تظل “ملطشة” للمحتلين الذين يقايضونها اليوم على “ماء” وجهها ، بعد ان سقطت في امتحان المواجهة .. وتحررت من التزاماتها.. واعتذرت عن دورها تحت مطرقة التخويف وسندان الوعود المغشوشة.
ثمة فعلا ما يدعو الى الخجل من هذه “الحالة” التي انتهت اليها مجتمعاتنا العربية وهي “تبدع” في تحديد اولوياتها ، ومناقشة قضاياها “المصيرية” وثمة - فعلا - ما يدعو الى استدراك هذا الواقع “الحزين” وتجاوز تشخيصه الى طرح سؤال العمل من جديد؟ والاجابة عنه واضحة بامتياز: ان يستعيد “عقلنا” فاعليته ومكانته ودوره ، وان يتعافى من هذه “الامراض” المزمنة التي اقعدته عن التمييز والابداع ، وان يصمت دعاة “تعطيله” ومقاولو استثماره في مجالات “الاشغال” لمجرد الاشغال ، واسواق “المزايدات” وحروب داحس والغبراء.
باختصار ، لا نريد لهذه المعارك “الوهمية” ان تختطف “عقولنا” كما اختطف اخرون “ديننا” ، ولا نريد لهذا الخطاب والاستهلاكي غير المنتج ان يسود واقعنا ، ويستبد في تهميش اولوياتنا.. وتهشيم اذواقنا.. او تجريح قيمنا وقضايانا التي لا نختلف على اهميتها اطلاقا.
وكالة عمون الإخبارية
المراجع
ammonnews.net
التصانيف
صحافة حسين الرواشدة الآداب مقالات أدبية