استكثر البعض على رئيس مجلس النواب تصريحه، في الكلمة الافتتاحية لورشة عمل عن دور مجلس النواب، بأن 75 % من وقت النواب يذهب هدرا! والنسبة بالتأكيد غير قابلة للقياس الرقمي الدقيق، لكنها لا تنطوي على مبالغة، وهي تريد إعطاء فكرة عن الهدر الشديد في الوقت.
ويمكن لأي مراقب أن يلاحظ حجم الهدر في وقت الجلسات، ما بين تكرار الكلام، والتزيد في المداخلات بلا طائل، وخصوصا نقاط النظام لاقتناص الكلام خارج الدور، والجدل حول قضايا إجرائية وشكلية تستهلك الوقت والجهد وتنهك الإدارة. وسيتضح للباحث أن نظاما داخليا يقيد ويحدد آليات النقاش والمداخلات في كل شيء، سيوفر ثلثي الوقت، ويسمح بمضاعفة إنتاجية المجلس ثلاث مرات.
وانظروا مثالا آخر على الهدر في الوقت وفي الموارد من الجهاز الإداري للمجلس (وبالمناسبة، فإن ثلاثة أرباعه عمالة فائضة عن الحاجة). فمثلا، يستمر توزيع جدول الأعمال يدويا وورقيا على الأعضاء، بدل اللجوء إلى البريد الإلكتروني وموقع المجلس الإلكتروني. وجدول الأعمال لا يتضمن العناوين فقط، بل كل المواد قيد البحث؛ مثل مشروع قانون، أو اتفاقية، أو إجابات عن أسئلة. وقد تصل المادة إلى مئات الصفحات، ويجب أن توزع في يوم واحد على بيوت النواب واحدا واحدا، من الرمثا إلى العقبة. وحين لا ينجز القانون في الجلسة الواحدة، يعاد توزيعه للجلسة التالية كاملا على جميع النواب بنفس الطريقة، وهكذا دواليك! ولطالما فكرت أن جريمة بيئية تمارس باستهلاك كل هذا الورق، وأننا شركاء فيها إذا لم نعمل فورا على إيقافها.
وخارج العمل الرسمي في المجلس، يهدر النائب جلّ وقته وجهده مجبرا على أكثر الأمور سلبية في حياة البلد، أي الواسطة. وهو يستقبل عشرات الأشخاص، ويتلقى عشرات المكالمات، للتوسط في أمور معظمها غير قابل للتنفيذ؛ فيصرف جهده ووقته لإقناع المواطن بذلك، لكنه يضطر تحت الإلحاح لمتابعة الأمر لدى المسؤولين، فيهدر المزيد من وقته وجهده ووقت المسؤولين وجهدهم، للوصول إلى نتيجة سلبية. ومن ثم، ينبغي العودة إلى المواطن العزيز، وصرف المزيد من الجهد والوقت لإقناعه بأنه تم بذل كل جهد ممكن لقضيته بدون جدوى.
وحدث ولا حرج عن الهدر في القيام بالواجبات الاجتماعية التي تمتد طقوسها، إذا أراد المرء القيام بها على خير وجه، لتستهلك نصف نهار. ففي حالات الوفاة مثلا، ينبغي المشاركة بالذهاب إلى الصلاة، ثم المقبرة، ثم إلى بيت العزاء. والنتيجة الإجمالية هي أن المواطن عموما، وليس النائب فقط، يكون مشغولا لأوقات طويلة في غير ما يرغب أو يستفيد، ويستهلك طاقته النفسية والجسدية بلا مردود حقيقي. والأثر الاجتماعي الماثل هو أن الانسان لا يكون مرتاحا وسعيدا أبدا، ويعاني من التوتر والمزاج السيئ ومشاعر الإحباط. وينعكس ذلك على سلوكه المحكوم ظاهريا للمجاملة، وفعليا للعدائية التي تظهر في كل لحظة يفلت فيها الزمام عن السيطرة.
هناك، مع الأسف، ثقافة عامة تقبل هدر الوقت والجهد. ولن نصل إلى نتيجة أبدا بالرهان على التطور الثقافي والقيمي مع الزمن. فكما أن عقوبات رادعة في قانون السير هي التي تصحح سلوكنا كسائقين، وليس الوعظ والإرشاد، فكذلك الحال في كل مجال آخر؛ إذ لا بد من تغييرات حازمة في الأنظمة والقوانين لفرض التغيير. لذلك، نشدد هذه الأيام على نظام داخلي جديد لمجلس النواب. وعلى جبهة أخرى، أتمنى أن يقتنع النواب أخيرا بقانون لتجريم الواسطة والمحسوبية.
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
جريدة الغد جميل النمري صحافة