حين تلقيت دعوة من الجمعية الاردنية السويدية ومركز ابن رشد التعليمي لزيارة مدينة (مالمو) قلت إنها فرصة للهروب من ضجيج السياسة في عمان الى هدوء الطبيعة في جنوب السويد ، لكن (لعنة )المقارنات بين أوضاعنا

وأوضاعهم حرمتني من هذه ( العطلة) ، وبصراحة أكثر ما وجدت أنني قد تورطت فعلا فيه، سؤال كبير لطالما ظل يتردد داخلي ، وهو : لماذا تقدم هؤلاء وتأخرنا نحن، لماذا تحضروا وتخلفنا؟ كنت بالطبع ابحث عن اجابة أعرفها كما يعرفها غيري، لكن قلت: لا بأس أن نتعلم من تجارب الآخرين.

لكي لا استغرق في التاريخ ، أحيل القارئ الكريم الى قراءة تجربة السويد منذ عهد ( الرق) الى ( عصر) الرفاهية ، ومن الزمن الذي كان الصراع فيه محتدما بين الملوك والقساوسة الى اللحظة التي اكتشف فيها السويديون ان الكراهية اسوأ مرض قد يصيب أي مجتمع فقرروا الانحياز ( للسلام)

والديمقراطية والاحتكام للقانون... وفي بضعة عقود فقط ودع الناس هناك عصور الظلم والاستبداد والانفراد بالسلطة والصراع الطبقي وتوافقوا على

(المواطنة) حيث الدولة في خدمة الناس، وحيث الناس منضبطون تماما في الحفاظ على الدولة.

منذ ان تطأ قدمك مطار ( كوبنهاجن) في الدنمارك متوجها الى مدينة ( مالمو) تطاردك المفاجآت في اتجاهين : اتجاه بناء العمران واتجاه بناء الانسان ، فثمة جسر ( اسمه اويستند) أقيم فوق بحر الشمال، يتقاطع مع سكة للقطارات أقيمت على شكل نفق بحري، يأخذك من قرب المطار الى مشارف المدينة السويدية في عشرين دقيقة فقط، وثمة ناطحة سحاب على شكل ( جذع متحول) انشئت لإسكان المواطنين وسط مالو يبلغ ارتفاعها (190م) وتضم (54) طابقا،وثمة مصانع وشركات عملاقة ومعالم عمرانية تذكرك بتاريخ المدينة ، حافظ السويديون عليها ليتذكروا كيف كانوا والى اين وصولوا، كلها تمثل انجاز هذا الشعب في مجالات الاقتصاد و التعليم والصحة والرفاهية .

وفي الاتجاه الآخر ثمة ( إنسان) قد اكتمل بناؤه، ففي مالو نحو (170) جنسية و(100) لغة وخليط من الاديان و الثقافات، لكن المجتمع الذي آمن بالتعددية

والشراكة وجد ( دولة) تعهدت بالمسؤولية التامة في الحفاظ على كرامته و أمنه الاجتماعي، ورفعت شعار ( مجتمع حر بلا فقراء ولا مهمشين)، فتطابقت صورة المجتمع مع صورة الدولة و الحكم ،وافرزت حالة انسانية فريدة، سواء في الرفاه او احترام القانون او الالتزام بقيم العمل و المساواة بين الجميع، حتى أصبح كل طفل يولد هناك يمنح من الحكومة ( منحة) تبلغ نحو 150 دولارا شهريا من الشهر الاول لولادته وحتى بلوغه سن السادسة عشرة ، ناهيك عن خدمة الضمان الاجتماعي التي تجعل كل مواطن - سواء كان يعمل او لا يعمل- مكتفيا وفي مستوى لائق من العيش الكريم .

تخجلني المقارنات - بالطبع- بين أوضاعنا وأوضاعهم (تصور ان السويد ثالث دولة من حيث مستوى الرفاهية في العالم بينما الاردن في المرتبة 88 )، لكن لا بد أن نحدق في صورتنا بالمرآة لنكتشف ما فعلناه بأنفسنا ، و لا بأس أن نتذكر بأن عدد سكان السويد ( 9،9 مليون نسمة) هو نفسه عدد سكان بلادنا ، كما ان التجربة السويدية حديثة نسبيا و خاصة بعد ان تعرضت في السبعينيات من القرن الماضي الى اسوأ حالة ( ركود) اضطرتها الى اغلاق العديد من المصانع و تسريح الالاف من العمال، وانها - ايضا- ظلت بلا لغة رسمية حتى اعتمدت مطلع هذا القرن اللغة السويدية، بمعنى ان ما حصل هناك لم يكن معجزة، وانما نتيجة لارادة سياسية تطابقت مع رغبة المجتمع في العبور نحو الاصلاح الحقيقي وصولا الى ( دولة الرفاهية).

لا اريد ان ( ازعج) القارئ الكريم بالحديث عن نماذج (الانجاز) الكبرى في التجربة السويدية ، وخاصة في مجال الاقتصاد والسياسة والتعليم والصحة ، ولكنني استأذن بتقديم ثلاثة نماذج (صغرى) مما رأيته في مدينة (مالمو)، احداها : (كيس) التنقيط الذي وضع لسقاية الأشجار في الشوارع ، وهو يشبه تماما أكياس النفايات لكنه صمم بشكل يتناسب مع حاجة الشجرة لنقاط الماء، علما بأن المدينة تضم العشرات من البحيرات وتكاد الأمطار تهطل فيها باستمرار، و لا تعاني - مثلنا - من أزمة مياه، أما النموذج الثاني فهو يتعلق بتدوير النفايات حيث تخصص ( حاويات) لفصل بقايا الطعام عن غيرها ، ثم يتم تخميرها لانتاج ( الغاز) ومعظم المواصلات العامة تستفيد من هذا الغاز و تعتمد عليه ، علما بأن سعر ليتر البنزين يقارب نسبيا سعره لدينا (140 فلسا) ،أما النموذج الاخير فهو ورقة الضرائب التي توزع على المواطنين، ويترك لهم حرية الاختيار لتحديد الجهات التي تصرف اليها، ومن الطريف أنها تضم بندا لمخصصات وضع ( الورود) على القبور، حيث تتكفل البلدية بالانفاق من هذا البند بشكل سنوي وذلك بوضع ( باقة) ورد على ( قبر) كل مشترك.

لدي نماذج أخرى ، سمعتها من الاخوة الاردنيين الذين التقيتهم حول ( طبيعة) الحياة هناك ، و الخدمات التي تقدمها لهم الدولة، وخاصة في مجال التعليم حيث يقدم مجانا منذ الحضانة وحتى الجامعة ، ولايسمح للطلبة بإدخال أي طعام داخل المدرسة لان ذلك من واجبات الدولة فقط، و في مجال الصحة حيث قال لي أحدهم بأن زوجته، تعرضت لحادث سير تسبب في إعاقة حركتها، فقامت شركة التأمين بتخصيص (ثلاث) موظفات برواتب من أجل خدمتها، كما تم استئجار الغرفة التي تسكن فيها بدلا من ابقائها في المستشفى مقابل مبلغ مالي، وهنالك سيارات مخصصة لمثل هذه الفئات يتولى سائقوها عملية الركوب و الانزال و فق احدث الاساليب، وفي مجال (السكن) حيث تقدم (التدفئة) على مدى اليوم مجانا و كذلك أعمال الصيانة، مقابل الضرائب التي يدفعونها، وهكذا تبدو الدولة قد تكلفت تماما بكل ما يحتاجه المواطن من خدمات ، ويبقى عليه ان يلتزم بدفع المطلوب منه.. وهو يفعل ذلك عن طيب خاطر ... او تحت سطوة القانون .

ما فعلته السويد في مجال (التمدن) والتحضر والرفاهية ليس معجزة ابدا، و انما حصل حين انتصرت ارادة الانسان وتخلصت (الحكومات) من فكرة السلطة وانحازت لقيمة(الخدمة) العامة ...فهل بمقدورنا ان نتعلم وان نتخلص - مثلهم- من القيود التي اثقلت رقابنا وايدينا طيلة هذه العقود.... قولوا : إن شاء الله.

حسين الرواشدة

المراجع

jo24.net

التصانيف

صحافة  حسين الرواشدة   العلوم الاجتماعية   الآداب