مشكلة امتنا -اليوم - ليست سياسية كما يتصور البعض ، فالمآلات التي انتهت اليها السياسة مجرد اعراض ، فيما المشكلة - الأزمة ان شئت - حضارية بامتياز ، وعلاجها ايضا ، ناهيك عن تشخيصها مكانة هذه الحضارة الانسانية التي يقال بأنها “واحدة” وان تعددت اطوارها واختلفت الامم التي تداولت عليها ، واذا كان ثمة استسهال في تحميل الاقطار والحكومات التي تدير السياسة وتدبر شؤون الناس مسؤولية اخفاقنا في النهوض بما اشتمل عليه من اسئلة الكرامة والوحدة وحماية المقدسات ورد العدوان والتقدم وغيره ، فان الحقيقة اعمق من ذلك وابعد ، اذ ان دورة الحضارة التي تشبه دورة الشمس تماما قد تجاوزتنا الى امم اخرى ، فغمرنا الظلام ، ولم يعد بوسعنا ان نرى امامنا الا “اشباحا” تطاردنا من كل اتجاه.
الامة -كل امة - تمر بمراحل ثلاث: ولادة مشفوعة بالصحة والعافية ، تبقى فيها ما دامت تمتلك “فكرة” تدور حولها ، ايمانا وعملا ، وتراجع محفوف بالامراض والمخاطر ، تظل تعاني منه اذا تخلت عن فكرتها واستبدلتها بالركون الى الاشخاص ، واحساس بالنهاية وقرب الاجل ، حين تصبح الاشياء مركز اهتمامها ودورانها ، ولدى امتنا - بالطبع - “فكرة” مصدرها سماوي لكن سيرورتها في حياتنا لم تعد كما كانت ، وهي - بالتالي - للاستهلاك لا للانتاج ، للتزيين لا للتحضر ، للاحساس بالتلقي لا بالترقّي ، مما افقدنا ميزة الامساك بالحضارة كفاعلين او مشاركين وحوّلنا الى مستهلكين لها ، وعالة عليها ، وضحايا لحركة عجلاتها الدائرة.
كيف حدث ذلك؟ اعتقد ان الجواب يكمن في نقطة واحدة وهي غياب “الفكرة” التي يمكن ان توحّدنا وتدفعنا الى النهوض ، والغياب هنا لا يعني الاندثار او الانقراض ، وانما “التواري” او الهجرة ، بمعنى ان الباعث الاول لحضارتنا كان هو “الدين” هذا ما زال موجودا لكنه تحوّل في انماط تديننا الى مجرد طقوس او معان غير منتجة ، وحين تعطّل الباعث الاول تعطلت حركة “الحضارة” وتحولت الارض الجاذبة الى طاردة ، والمركز الى نقطة على الهامش ، والمنتجون الى مستهلكين ، واصبحت الامة -كلها - في دائرة الاستقبال لا الارسال ، والمفعولية لا الفاعلية ، والانكماش والابتلاع بدل التمدد والهضم والانطلاق.
هل نشعر باليأس؟ كلا بالطبع ، لكن الامل المغشوش وجه اخر لليأس ، مما يعني العودة الى المصارحة ، ومنطقها ان لدينا باعثا حضاريا او طاقة حضارية ، وهذا يمنحنا الامل باستعادة امتنا لعافيتها ، لكن وجود الباعث لا يكفي ، فهو بحاجة الى من يتفاعل معه ، ويحركه ليدور ويعمل ثم ينتج بالتالي حركة وفاعلية.
باختصار ، كل ما طرأ على مجتمعاتنا من اصابات ، سياسية كانت او اجتماعية او اقتصادية ، هي مجرد اعراض لمرض استقالتنا من (الحضارة) ، وافول شمسها عنها ، وتوهمنا - بما امتلكناه من مكدساتها وبضائعها - باننا ما زلنا من صناع الحضارة ، او على الاقل ، من المشاركين فيها ، وهذا غير صحيح ، فامتنا اليوم في منطقة اخرى انقطعت عنها (الطاقة) الحضارية الفاعلة ، وغابت عنها شمس الحضارة واشراقتها ، فارتبكت خطواتها ، وضلت اقدامها ، وتعثرت افكارها واعمالها.
دعونا نبحث في صيدلية (الحضارة) عن وصفة الدواء.. ودعونا نتوقف عن تحميل (اقطارنا) ومعها السياسة مسؤولية ما اصابنا من خراب.. فهذا الذي نعانيه اكبر من ان يختزل في دولة او حكومة ، في شعب او نخبة.. انه يتعلق (بأمة) فقدت حضارتها وعطلت طاقتها العقلية والروحية.. وهي تبحث الآن (هل تبحث حقاً؟) عمن يرشدها الى الصواب .
حسين الرواشدة
المراجع
ammonnews.net
التصانيف
صحافة حسين الرواشدة العلوم الاجتماعية الآداب