ما حدث داخل الاخوان المسلمين يمكن فهمه في سياقين اثنين، الاول: اقليمي ويتعلق بما جرى في المنطقة بين ثورات وتحولات لم تستهدف الأنظمة فقط وانما الحركات والافكار ووعي الناس وعلاقاتهم مع بعضهم سواء أكانوا داخل التنظيم أو خارجه، ثم ما جرى بعد ذلك من استهداف للاسلام السياسي (الإخوان تحديدا) ومحاولات لإسقاطهم وشيطنتهم، اما السياق الثاني فيتعلق بما حصل لدنيا من حراكات وتحولات على صعيد علاقة الاخوان بالدولة والمجتمع، أو علاقة الاخوان ببعضهم داخل التنظيم .

إذا اتفقنا على ذلك فإن مشهد “المخاض” الاخواني يبدو طبيعيا وليس مفاجئا، كما انه استحقاق لمرحلة لها سماتها ابتداء من اختلاط الادوار والاوراق الى تكرار نسخ “الانقلابات” الى انكسار عصا الطاعة، وتراجع الهيبات والشرعيات، و شيوع ثقافة “التمرد” والتفكيك والانقسام والكراهية ايضا.

يسجل “للاخوان “ أنهم حاولوا “التكيف” مع هذه الاستحقاقات، سواء بالاستباق أو الدفاع أو المواجهة، لكن حركتهم احيانا كانت ابطأ من حركة الاحداث، والظروف التي احاطت بهم كانت أثقل من قدرتهم وامكانياتهم على “الهرولة” للامام، مما فتح الباب امام خصومهم للاستثمار في الفراغات “الضعيفة” لديهم، كما اغرى بعض المحسوبين عليهم لتصفية حساباتهم معهم، وكل ذلك جرى -للاسف- تحت عنوان “الاصلاح” و بمنطق المصارعة والمناجزة، وفي ساحات الاعلام وباستخدام اسلحته المختلفة، المشروعة وغير المشروعة، وباصرار غريب على تغييب الحوار لمصلحة قهر الخصم او افحامه ، مع ان المقاعد والأدوار تتسع للجميع.

الآن، الاخوان في أزمة، قد نختلف حول الاطراف المسؤولة عنها، وحول مدى تأثيرها على مستقبل الجماعة، وحول حصص الخاسرين منها، لكن لا يجوز ان نختلف على خطر التهوين منها، ولا ايضا على ضرورة الخروج منها باسرع وقت وباقل ما يمكن من جراحات وخسائر.

كيف؟ لا أزعم ان لدي وصفة جاهزة استطيع أن أقدمها لإخواننا “المتخاصمين” ( سواء اكانوا من طرف الغاضبين او الصامتين او العاتبين) ولكنني استأذن في تسجيل مفاتيح لعناوين اتمنى ان تساهم في تصحيح مسارات النوايا والافعال.

أولا ان الجماعة تعرضت في العقود الماضية لانشقاقات عديدة، بعضها جرى بهدوء وبعضها ما زلنا نسمع ضجيجه، لكنها لم تفقد وزنها على الارض ولم تخسر الكثير من “رصيدها” في الشارع، وانما استطاعت ان تنهض وتنجز، وربما استفادت من هذه الازمات احيانا، وبالتالي فان محاولة الانشقاق عنها مجددا لن تكون مختلفة هذه المرة. وثانيا : ان الجماعة التي تشكو “غالبا” من ظلم الاخرين وانحيازهم ضدها لا يجوز ان تمارس هذه “الاخطاء” على “ابنائها”، وكما تطلب من الدولة ان تستوعبها وان تتعامل معها بمنطق الحكمة والاستيعاب فان المطلوب ان تتعامل مع داخلها بالمنطق ذاته، والا ستخسر “الموازين” التي تطالب بها، وثقة الاعضاء الذين ينتسبون اليها والذين يتعاطفون معها. وثالثا ان الالتزام بمبدأ “الاصلاح” الذي عبرت عنه الجماعة بمختلف تياراتها تجاه النظام، يجب ان يعتمد ايضا تجاه “الحركة” ومن مختلف اطرافها، فليس مقبولا ان يضع البعض “اسقاط القيادة “ او عزل بعض القيادات” ضمن دائرة مطالب الاصلاح لان هذه الشروط “انقلابية” بامتياز، كما انه ليس مقبولا ان يرفض الاخرون “ مسألة” فصل الجماعة عن الحزب او انهاء حالة الاستحواذ على الواقع او وضع القضايا الوطنية كأولوية على اعتبار هذه مطالب “انقلابية” وليست اصلاحية. وباختصار فان التوافق على الاصلاح ومقاساته يستوجب من الطرفين مزيدا من التواضع في المطالبات والاستجابات والعقلانية في الاخذ والرد وهذا لن يتحقق الا اذا اقتنعنا بالنزول من فوق الشجرة، رابعا: اذا سلمنا بان مبادرة زمزم هي حالة “انشقاق” عن الجماعة، وان اعلان اربد ومؤتمر الاصلاح الاول هما رسالتان من داخل الجماعة لتصحيح مسارها و مراجعة نهجها ، فان المطلوب من الجماعة ان تتحرك بهذا الاتجاه، لا لمواجهة الانشقاق الذي تم فعلا، ولا للرد على “العاتبين” وانما لمصلحة الجماعة نفسها كمشروع، سواء من جهة تحصينها والحفاظ على تماسكها، او لهضم ما جرى وتجاوزه، وبالتالي التعامل معه “بالفضل” لا “بالقذف” و بالمعروف لا بمعاقبة المصروف. خامسا : ان المشكلة لا تتعلق بالانشقاق وانما بحجمه وزخمه ومستقبله ايضا، والاهم بطريقة تعامل الجماعه معه، وهنا اعتقد ان الاطلاق باحسان هو الحل، وهذا يستوجب من الجماعة ان تؤمّن مخرجا لائقا لمن ضاقت بهم اطرها، كما يستوجب على “الخارجين” منها (لاعليها) ان يبحثوا عن طريق اخر يأخذهم الى غاياتهم ، فكما ان ارض الله واسعة فان أرزاق العباد وحظوظهم في المعاش والمعاد مقدرة وان اختلف الكسب واجتهد الناس في الطلب.

باختصار، الجماعة ستتجاوز ازمتها، كما فعلت في السابق، حتى وان تركت بعض الجراحات، لكن المطلوب منها ان تقدم لنا نموذجا في التسامي والتعالي على الخلافات والصراعات، وفي اخلاقيات واداب الخصومة السياسية التي افتقدناها، ونريد منها ان ترد على ابنائها العاتبين عليها وعلى المتربصين بها -كما فعلت في الانتخابات النقابية الاخيرة - بلغة الانجاز والثقة بالنفس لا بالتراشق والتنابز، وبمنطق الاصلاح الذي تطالب به غيرها لا بمنطق الاستحواذ والاقصاء الذي عانت منه ويفترض ان ترفضه قبل الاخرين.


المراجع

جريدة الدستور

التصانيف

صحافة  حسين الرواشدة   جريدة الدستور