الإنسان أولا وقبل كل شيء


عبد الله عنتار

كاتب وباحث مغربي، من مواليد سنة 1991 . باحث دكتوراه في علم الاجتماع . 

 

هل نعيش الإنسان واقعا وتمثلا ؟ هذا السؤال ظل يمثل بالنسبة لي هاجساً كبيرا، وما فتىء يطرح نفسه على الدوام، سواء حضرت إلى ندوة، أو شاركت في تظاهرة، أو تجولت في الشارع، أو امتطيت حافلة. هل هؤلاء الذين أصادفهم يوميا رعاع أم مواطنون ؟ هل يتصفون بصفة المواطنة والإنسانية أم بصفة الرعاعية ؟
حينما أتجول بالشارع، لا أرى هناك أي احترام أو تقدير للراجل الإنسان، المحلات التجارية تستولي على الرصيف، الشارع مغبر في الصيف، مليء بالأوحال في الشتاء، غياب لوحات التشوير، الباعة الجائلون يستولون على الشارع، ناهيك عن الازدحام، باختصار هناك الفوضى وهي إحدى تجليات الثقافة الرعاعية، في قاموس لسان العرب تعني الرعية القطيع من الأكباش، لا يجب أن نتفاجأ عندما نلاحظ القطيع البشري يعيث في الفوضى داخل الأسواق، أو وسط المدارس، أو أمام المستشفيات، أو داخل الحمامات، أو وسط المساجد، إن الرعاعية بنية تحكم أفكار وسلوكات أشباه المواطنين الذين لم يقطعوا مع الثقافة السوقية والغوغائية التي تنظر إلى الإنسان ككائن حيواني غير مقتدر يسلم مصيره وقدره إلى قوى مفارقة تتحكم فيه، ولا تنظر إليه ككائن مشروع يتمتع بالحرية والاستقلالية والمسؤولية .
من هذا المنطلق، فالإنسان إنسان لأنه حر، أما تجريده من حريته، فلن تفض به سوى إلى عالم القطيعية والبهيمية تهشه عصا الراعي، لكن لا يكفي أن تسلم الحرية إلى الرعاع حتى يصيروا أحرارا، إن الحرية خطيرة على الرعاع، بدون ثقافة ووعي تصير الحرية فوضى رعاعية تؤدى إلى الخراب والدمار والدماء، فلابد من الوعي بالحرية أخلاقيا وقانونيا وفلسفيا، أي ينبغي أن تصير ضميراً غيريا يستحضر الآخر، بمعنى أن الحرية لا ينبغي أن تكون مطلقة بيد قطيع آدمي تحكمه الأنانية والغريزة في بدائيتها، إن الحسم مع الثقافة الرعاعية يجب أن يكون تمثلا وسلوكا، لقد تم تشرب الرعاعية في مختلف قنوات التنشئة الاجتماعية .
في اليوم 23 من أبريل 2016، كنت في مدينة خريبكة وقفلت راجعا إلى مدينة وادي زم، لم يفوتني أن ألاحظ داخل المحطة تدافع الركاب حول الأماكن الشاغرة، وعويل القباضين، ناهيك عن فوضوية الحافلات وعدم انتظامها، وتبول المارة على الجدران، والأزبال المتراكمة في ساحات المحطة ...لا تختلف المحطة عن الحظيرة، هذا دليل قوى على تحكم الجزء الحيواني فينا، ذلك الذي يسميه علماء البيولوجيا بالدماغ الزاحف، وليس عجيبا أن يتحربأ القباضون وأن يضاعفوا من الثمن وقت الشدة، وليس غريبا أن يتحيون الركاب ويتدافعون ويتراكلون كالقطيع، لماذا لا ينتظمون في الصف ؟ إن الدماغ الزاحف لا يعترف إلا بالتلبية الفورية والآنية الأنانية، لهذا فالسلوك الذي يحكم القباضين كما الركاب سلوك حربائي أناني وحيواني .
هذا السلوك يطال حتى الفكر، لقد حضرت في ذلك اليوم إلى ندوة احتضنها المركب الثقافي بخريبكة تحت عنوان: " إشكالية القيم في منظومة التربية والتكوين ودورها في بناء الهوية الوطنية"، وكم كان بودي الحضور يوما كاملا ولكن ظروف العمل حالت دون ذلك، فالندوة تكون تفاعلية عندما تلتقي الأفكار المتناقضة، وهذا ما كان في الفترة الصباحية بحضور الثنائي المتناقض أحمد عصيد وسعيد شبار، غير أنني عندما وصلت كانت هذه الفترة قد انقضت بتسليم الحاضرين بعض الجوائز الرمزية، هنا أمكنني تسجيل بعض الملاحظات : حينما تم تسليم شبار الجائزة صفق الجمهور بحرارة، بينما لم يصفق الجمهور بالمرة حينما سلم عصيد الجائزة، ولقد احتج هذا الأخير ملوحا بعدم دستوريتها لأنها تتضمن سوى كلمات عربية دون الأمازيغية. هذا السلوك الذي صدر عن الجمهور هو سلوك قطيعي لأنه يعني الخندقة والتمترس وفق قاعدة " ما يشبع حاجتي أصفق له، ومن لا يشبعها أتجاهله". إنسانيا ينبغي التصفيق للجميع تشجيعاً للسادة المفكرين حتى لو كان هناك اختلاف في الأفكار والقناعات. لأن الأساس هو النقاش ومعرفة كل واحد للجزء الغائب عنه .
بالإضافة إلى ذلك، لقد أمكنني أيضا في نهاية الفترة الصباحية أن أستمع بإمعان للتوصيات، المتدخل أبرز أن الإسلام هو عقيدة البلد، وبالتالي يجب أن يكون مصدر القيم، وما أغفله المتدخل أن الإسلام عقيدة أهل البلد وليس مؤسسات البلد، فالعقيدة عقيدة أشخاص وليس عقيدة مؤسسات، فالشخص هو الذي يصلي ويصوم ويزكي ولم يسبق لنا أن رأينا البرلمان أو الحكومة أو المحكمة تقوم بهذه الطقوس والشعائر الدينية، والإسلام ليس مذهبا واحدا، بل هو مذاهب شتى، وبالتالي إذا صار المذهب الأشعري أو الحنبلي أو الشيعي هو سيد المؤسسات من يضمن لنا أن أتباع المذاهب الأخرى لن يتعرضوا للاضطهاد ؟ صفوة القول أن الإسلام كدين لا يهم إلا الشخص المؤمن به ولا ينبغي أن يلزم المؤسسات، لأن المؤسسة تتعامل مع المواطن ولا يهم مذهبه أو دينه أو لغته، بل مغربيته هي الأساس. إن مأسسة الدولة على دين معين أو مذهب يذكرنا بإعدام بعض أتباع الطائفة البويهية عام 1963 بالناظور، مثلما قتل مغربي شيعي في السنوات الأخيرة، ولا يخفى علينا أن أتباع الوهابية المتطرفة يكيلون الكراهية للأقلية الشيعية بالمغرب، زد على ذلك الأقليات المسيحية، ناهيك عن المثليين الذين يتعرضون للتسفيه والاضطهاد من طرف المجتمع وما حدث في فاس وبني ملال ليس بالبعيد . ولا ننسى مصير أبناء الأفارقة جنوب الصحراء من أصول مسيحية هل من اللازم تعليمهم دروس التربية الدينية الإسلامية !
ومن هذه الزاوية، إذا صار الإسلام دين الدولة، فإن الأقليات سوف تتعرض للاضطهاد، لذا لابد من دولة مدنية ترتكز على ثقافة الاختلاف يتحول معها الإسلام إلى جزء من الثقافة وليس الثقافة كلها وفق قاعدة " من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر " متجاوزين قاعدة " إن الدين عند الله الإسلام "، وفي هذه الحالة يمكن أن نعرف استقرارا دينيا بعيدا عن الاصطفاف المذهبي، فنخرج من الرعاعية صوب المواطنة التي تؤمن بالإنسان أولا .
المتدخل في ندوة خريبكة أخطأ حينما وضع في كفة واحدة تركيا وداعش، صحيح إذا كان يقصد هذا الفاضل تركيا العثمانية التي تشبه داعش في وحشيتها ورعاعيتها وغوغائيتها، خاطئ اذا كان يقصد تركيا الكمالية، مصطفى كمال أتاتورك زعيم مناضل ذو حس وطني لم يبع أرضه للمعمرين مثلما باع العثمانيون وآل سعود فلسطين للصهاينة، تركيا أتاتورك هي التي أرست النظام العلماني التعددي في تركيا وإلا كانت تركيا قد دخلت في حروب دينية عاصفة مثل جيرانها العرب، أو سقطت ضحية للاحتلال والتقسيم الإمبريالي مثل بقية الدول العربية التي تنهشها الحروب الدينية (السنة، الشيعة)، العثمانيون لا يختلفون عن الدواعش، لقد فرضوا تجويعا وجرائم ومذابح فظيعة على العالم العربي، كم الدماء أهرقت حين غزو دمشق والقاهرة، وكم الرؤوس قطعت في الانتفاضات الفلاحية في وجه الطاغوت العثماني، إن المتدخل في ندوة خريبكة يتجاهل أن العثمانيين استعمروا العالم العربي ستة قرون وكرسوا الرعاعية ولم يعطوا عالما واحدا يضاهي غاليلو في مقابل قوة عسكرية تتكون من انكشاريين ينهبون ويسرقون ويقرصنون، وداعش التي تدعمها تركيا الإخوان المسلمين وهي حليف الكيان الصهيوني لا تختلف عن الماضي العثماني الأسود والرهيب والمرتكز على قطع الرؤوس، إن الرعاعية واحدة ولازمت تاريخنا البائس .
متدخلة أخرى تشتغل بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين بتطوان، أكدت في مداخلتها أنه يجب أن نأخذ من الغرب، ولكن ما يتوافق مع هويتنا، ولكن أية هوية ؟ إن المتدخلة الفاضلة تعتقد أن الهوية هي الخصوصية الثابتة التي لا تتغير، غير أنها تغافلت أن الهوية بناء تاريخي ما فتىء يبني نفسه على الدوام انطلاقا من التلاقح الثقافي بين الشعوب، والإسلام ليس وحده المشكل للهوية المغربية، بل حتى اليهودية والمسيحية والفنيقية والقرطاجية والأمازيغية والعلمانية الفرنسية، هذا الغرب الذي ترفض المتدخلة جزءاً منه هو فينا، كان قبل مجيء الإسلام ولازالت آثاره شاهدة عليه (وليلي، أغسطينوس. ..)، لكن ما الجزء الذي تقبل به المتدخلة الكريمة ؟ إنه التقنية التي تتجلى في الحاسوب الذي تمسك به وهي تقرأ عرضها. لكن أين العقل والإنسان والحرية والذات التي أنتجت التقنية ؟ أين هي قيم التحرر والإبداع ؟ تقول إنها في إسلامنا، ولماذا الإسلام لم ينتج التقنية ولا نجد في تربته الحروب الدينية والأرض البور وحقوق الله بدل حقوق الإنسان ؟ لماذا ثقافة الرعاعية وليست ثقافة الإنسانية ؟ باختصار لأن الإنسان غير موجود، الإنسان الذي يصنع مصيره وقدره غير موجود في الإسلام، هذا الإنسان منذور للعبادة والتسليم بالقضاء والقدر، ولا يجوز له التساؤل والتشكيك، الفيلسوف سارتر يؤكد أن الإنسان لا يمكن أن يحقق حريته في ظل الوجود الإلهي، يرى أنه يجب نفي الإله، والمعتزلة كانوا أقرب إلى ذلك حينما دعوا إلى إبعاد الإله من إطاري الزمان والمكان حتى يكون الإنسان حرا ومسؤولا عن تصرفاته وتمثلاته، عندها يمكن الخروج من الثقافة الرعاعية .
حاول متدخل آخر في حصة العشية تدارك تغييب الإنسان حينما استدل بقولة لعلي شريعتي التي مفادها : يجب أن ننطلق من الإنسان، وأي إنسان نريد ويجب حفظ كرامته، فعلا يجب الانطلاق من الإنسان أولا وقبل كل شيء، أي أن الإنسان يسبق الدين، معنى هذا أنه لا يولد بالفطرة، وإنما الدين مكتسب، فالإنسان كوني سرعان ما يتم دمجه داخل دين معين بالإكراه، لهذا فصون كرامته تتمثل في احترام اختياراته وحرية ضميره واعتقاده، بالإضافة إلى أن الإنسان هو مشرع قيمه، ولا وجود لقيم متعالية، بل كل القيم هي محايثة يتوافق عليها البشر، لا يسعني سوى أتفق مع المتدخل الفاضل في هذا الجانب، وأتفق معه أيضا حين أكد أن الوطن هو يجمع المغاربة، ولكن أختلف معه حينما قال بأن الإسلام هو الذي يجمع المغاربة، لا يمكن أن يجمع المغاربة الدين، المغاربة متعددون دينيا ولغويا، فهناك الشيعة والسنة والمسيحيون، اليهود، العرب، الأمازيغ، المثليون. ...هل الدين قادر على رأب الصدع ؟ في حادثة المثليين ببني ملال، طالب البعض بتطبيق الحدود في حق هؤلاء، والأمر كذلك في حق من يفطرون في رمضان . هل الدين كدين للدولة قادر على ضمان التسامح في ظل دعوات رجال الدين والجماهير بتطبيق الشريعة والحدود وما تتضمن من رجم وجلد وإعدام ؟ لا أظن ذلك، لا يمكن للإسلام أن يكون جامعا بين المغاربة، الذي يجمع بينهم هو دولة مدنية تفصل الدين عن الدولة، وتعتبر الدين مسألة خاصة ليس ملزما لأحد، بل هو اختيار، ومن ثمة يكون الإنسان إنسانا حينما يختار، ويكون رعية حين يختار له.
غير أن المتدخل الفاضل يعتبر أن القيم منتهكة من طرف الفساد، والبعض يلخصه في التماسيح والعفاريت، والبعض الآخر يلخصه في الدولة العميقة أو المخزن، بيد أن المتدخل الكريم الذي بدأ مداخلته بالبسملة كغيره من المتدخلين لم يسم الأشياء بمسمياتها، لقد أكد أن هؤلاء الفاسدين بمجرد ذكر أسمائهم واكتشافهم سوف ينتهون !! إنه ضحك على الذقون ! إذا كان يؤكد أن من يقول بالدولة العميقة أو التماسيح أو المخزن لا يستطيعون التصريح عن هوية هذه الأوصاف، فإنه سقط في الهفوة نفسها، ولكن لماذا ذكر حسن أوريد صاوحب مقولة المخزن وليس بن كيران صاحب مقولة التماسيح مع العلم أنه رئيس حكومة وله سلطات واسعة في محاسبة المفسدين !! هنا تطفح الخلفية الإيديولوجية للمتدخل الكريم، هل يريد تعمية الحضور ؟ لقد كشفت أوراق بناما كل شيء، لكن السيد وزير العدل لم تحرك نيابته العامة أي شيء، وصمتت صمت القبور، من هنا تبدأ القيم باعتبارها الركن الركين لندوة خريبكة.
وفي هذا الصدد عمق الجرح متدخل الكونفدرالية الديمقراطية للشغل الذي اعتبر أننا نعيش في دولة رعايا وليست دولة مواطنين، فهناك غياب مشروع مجتمعي، وغياب الديمقراطية، وهيمنة الزبونية والمحسوبية، مع تكريس الولاء والتحكم من قبل المخزن، ناهيك عن تمدد الرأسمال نيو ليبرالي المتوحش، فصارت المدرسة معملا اقتصاديا لحاجيات السوق، قائمة على اقتصاد المعرفة والمردودية والعمل بالعقدة والإنتاجية والاستهلاكية، لقد فقدت المدرسة المغربية كل القيم وفقدت مصداقيتها في الترقية الاجتماعية، فبات المدخل الحقيقي للإصلاح هو تكريس العدالة الاجتماعية والتوزيع العادل للثروة وقيم التسامح والاختلاف . هذا هو السبيل الملائم لتجاوز الثقافة الرعاعية والوصول إلى مرتبة الإنسان المكتمل والقادر، وليس الإنسان الخرافي المتعصب الذي استمعت إلى واحدة من خزعبلاته على الحافلة المتجهة إلى وادي زم سوى حالة من ملايين الحالات وجملة ما قال : إن سكان الشمال يطالهم الزلزال من حين لآخر لأنهم يتاجرون في القنب الهندي، إنه غضب إلهي !!!! وأنا من جهتي أقول : إنه كلام رعاعي تافه وسخيف كثيرا ما نصادفه يوميا في المحطات والحافلات والندوات والإعلام. ...الكل يعزى إلى سياسة التتفيه والتجهيل، إن الزلزال ليس غضبا إلهيا، بل هو ظاهرة طبيعية تقع في كل مناطق العالم نتيجة اصطدام صفيحتين من صفائح الكرة الأرضية، ولكي نصل إلى هذه الحقيقة : " الإنسان أولا وقبل كل شيء " .





المراجع

ahewar.org

التصانيف

عقيدة إسلامية  عقيدة  مسائل اجتماعية   العلوم الاجتماعية