يقدم كتاب سامي زبيدة بعنوان "الشريعة والسلطة في العالم الإسلامي" إضاءات جديدة ومهمة في النظر والتحليل حول مسألة تطبيق الشريعة الإسلامية والعلاقة بينها وبين التشريع والحكم والإدارة.
وقد بدأت القضية تتبلور كما هو معلوم في القرن التاسع عشر عندما دخلت الدولة العثمانية في مرحلة من التطوير المؤسسي والتشريعي لتستوعب التحولات الديمقراطية والسياسية التي جرت في أوروبا وتحافظ في الوقت نفسه على الطابع الإسلامي أو الانسجام مع الشريعة الإسلامية.
واستنبط العلماء والقضاة الصيغ التي تم بموجبها إدخال الممارسات المالية القائمة ضمن نطاق الشريعة، ولم يحدث ذلك بجعل تلك الممارسات تتوافق مع القانون الشرعي، بل بتوسيع مفاهيم ذلك القانون ومفرداته بحيث تستوعب الممارسات القائمة وتضفي عليها شرعية دينية مع الحفاظ على اختصاص القضاة ضمن إداراتهم.
إذن لقد أظهرت الشريعة مرونة كبيرة في الزمان والمكان، ويصل سامي زبيدة إلى القول بأن إصرار الآراء الحديثة على الطبيعة الثابتة وغير المتبدلة للشريعة بوصفها قانونا إلهيا لكل الأزمان، لا تؤيده دراسة تاريخ الشريعة وعملها.
وربما تكون التجارب الحديثة لتطبيق الشريعة تصلح للتأمل والتفكير في المسألة، فقد عملت بعض الدول على قوننة القواعد الشرعية على هيئة قوانين حكومية، وأحدث ذلك تحولا جذريا في الشريعة ومنطقها، فقد أدى الإدماج للشريعة ضمن الدولة إلى فصلها عن موقعها الديني وعن كتب الفقه وتقاليده ليحصرها في الكراريس الحكومية.
كما أنه نقلها من عهدة العلماء إلى عهدة البيروقراطيين والمشرعين، ومن التعليم الديني إلى كليات الحقوق الحديثة، ومن الإجراءات القضائية الخاصة بمحكمة القاضي إلى نظام المحاكم الحديث المستند إلى إقامة الخصومة.
ويخضع التشريع والأحكام القضائية الآن للمنطق السياسي والبيروقراطي وليس إلى تقاليد الفقه وطرائقه، فالقاضي يصدر حكمه استنادا إلى القوانين وليس إلى كتب الفقه، وهو مسؤول أمام الدولة والقانون وليس أمام الله وأمام ضميره.
وقد حاولت المملكة العربية السعودية إبقاء القانون في أيدي العلماء والاستمرار في عدد من الإجراءات القديمة، ولكن ذلك أدى إلى توترات في المجالات الحديثة في الاقتصاد والإدارة، وتجري السعودية اليوم عمليات تطوير واسعة لإصلاح القضاء وتحديثه لمواجهة التحولات والأزمات الناشئة عن الحداثة والتطبيقات المعقدة.
وفي المقابل قامت الجمهورية الإسلامية الإيرانية بقوننة الشريعة بحيث تجعلها قانونا حديثا، كما أقامت نظاما قضائيا حديثا، ولكن السلطة الدينية المتمثلة برجال الدين تحاول تقويض هذه السياسات والعودة إلى الإجراءات القديمة التي تعطيها سلطات واسعة ومجالات للاجتهاد. إن تطبيق الشريعة في الدول والمجتمعات الحديثة يجري فهمه بطرق مختلفة ومتعددة من قبل الأطراف المهتمة بالأمر، فالمتشددون والأصوليون وكذلك الليبراليون (كل في وجهة هو موليها) يميلون إلى نبذ التقاليد التاريخية للفقه ومنطقه ومنهجيته لصالح العودة إلى المصادر القديمة المقدسة، وهي القرآن والسنة.
ولكن المتشددين والمحافظين يقرؤون هذه المصادر بشكل مخالف لليبراليين، إذ يجنح الأخيرون إلى تبني النسبية التاريخية، ويقرأون النصوص في ضوء زمانها ومكانها مؤكدين أنه إذا كان القرآن كلام الله موجها إلى الناس بمصطلحات يقدرون على فهمها، فستكون الألفاظ تتناسب مع الوسط الذي يتلقاها، وإذن فعلينا أن نفهم النصوص بلغتنا نحن، ونفسرها طبقا لمقاصدها وروح العصر.
وفي أحيان كثيرة تكون الدعوة إلى تطبيق الشريعة تعبيرا عن سياسات اجتماعية محافظة وقياداتها التي تسعى لاستعادة السلطة كما يظهر في حالة المحافظين في إيران.
وفي أحيان أخرى تكون تعبيرا عن استعادة الهوية والثقافة الوطنية والمحافظة على التراث الوطني بالنسبة للمسلمين في مواجهة الاستلاب والغزو، فالشريعة الإسلامية هي المكون الأساسي للمشروع الحضاري الإسلامي، والعمود الفقري لتلك الحضارة، وبدونها لا يختلف المجتمع الإسلامي عن المجتمعات المسيحية أو البوذية.
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة ابراهيم غرايبة جريدة الغد