أحسنت أمانة عمان صنعا بإعادة تنظيم الشوارع واللافتات الإعلانية وترقيم العمارات، فهذا الكرنفال الإعلاني كان مضللا وبالغ البشاعة ومستفزا للذوق والمنطق، وجعل من الصعب المطابقة بين الخرائط وأنظمة الترقيم والتسمية وبين الواقع. فالجامعات والوزارات في عمان توصف للسائلين بأنها بجوار أو مقابل المطعم الفلاني، حتى المطعم الذي اختفى بقي اسمه مهيمنا على أحد الشوارع المهمة، ويتحدث زائر عربي لعمان بألم لأن الناس سخروا منه عندما رأوه يحمل خريطة ويحاول أن يستعين بهم لمعرفة مكان يبحث عنه.
في مدن أخرى حتى في العالم الثالث تعطي العنوان مكتوبا بقواعد وأرقام بسيطة للسائق والذي قد يكون في بعض الأحيان أميا ولكنه يوصلك إلى المكان المطلوب تماما، فجميع البيوت والعمارات والشوارع مرقمة منطقيا وفق أرقام وحروف تجعل الوصول إليها سهلا وعمليا، ويكفيك الحصول على خريطة لمدينة مثل لندن أو نيويورك لتجد بعد لحظات أنه يمكنك الوصول والتحرك بسهولة كما لو أنك أحد سكان المدينة.
من المنطقي أن تكون الشوارع والعمارات واللافتات الإعلانية موحدة ومنظمة، فهذا لا ينسجم فقط مع الجمال والهدوء، ولكنه يحمي من الجنون الإعلاني والذي يضر بالآخرين ويعتدي عليهم، وبعد فترة وجيزة سيعتاد الناس على التعامل مع الأماكن بأسماء الشوارع وأرقام العمارات بدلا من الوصفات الطلسمية والمخجلة، وهي عملية ستنشئ ثقافة إيجابية للعلاقة بالمكان والأسماء بدلا من أن تظل عمان بكل معالمها وثرائها مختزلة في مجموعة من أسماء المطاعم والمحلات التجارية ذات اللافتات العملاقة والاستفزازية، وستبدو لأهلها بمظهرها الأصلي من الحجارة المميزة لها عن مدن العالم بدلا من هذا الركام الفوضوي والبشع من اللوحات الإعلانية المتراكمة والمتجاورة والمزدحمة والمتشعبطة والممتدة إلى الأرصفة والمعترضة للمشاة وبخيالات وأفكار بدائية تعتقد أن الجمال مستمد من فرص وإمكانيات التقنية.
وربما يكون من الضروري أن يدرب سائقو التاكسي على خرائط عمان ومعرفتها والتعامل معها، ومن الغريب جدا وهذا حدث معي أن ثمة سائقي تاكسي في عمان يبدو واضحا أنهم غرباء تماما عن الأردن وعمان ولا يعرفون شيئا من معالمها التي يعرفها أي أردني، وأذكر أني طلبت من سائق تاكسي أن يوصلني إلى اللويبدة فسألني وأين هي اللويبدة؟ قلت له اذهب إلى العبدلي وسأدلك من هناك، فقال وأين العبدلي؟ مثل سائق التاكسي هذا لا بد أنه ليس من عمان ولم يعش في الأردن من قبل، وسائق آخر اشترط عليّ قبل أن أركب بأن أدله على المكان الذي أريد الذهاب إليه لأنه لا يعرف شيئا في عمان، أهلا وسهلا!
لا يجوز أن تشوه بل وتدمر الأفكار والأعمال الجميلة التي بذلها المهندسون والحرفيون في تصميم المباني والواجهات والنوافذ والأبواب والأبعاد والزوايا والمسافات والفراغات وفي البناء الجميل والمعقد بفعل خزانات المياه وأطباق الساتلايت وأعمدة الإرسال التي لم تعد تستخدم وأعمدة الهاتف والكهرباء وأشجار لا تلائم الأرصفة ولافتات تغطي كل شيء وتذهب بكل جهود التصميم والإبداع والعمل والزينة الحرفية الأصيلة والمتراكمة.
ويبدو أنه مازال أمامنا الكثير من التشريعات ومنظومات السلوك لنحمي منجزاتنا التي ننفق عليها الكثير ونحافظ عليها بدلا من تدميرها وهدرها، ينقصنا شيء ما متعلق بالمنطق والجمال الذي ينظم الأعمال والأفكار والمشروعات والتشريعات، هل كان خطأ كبيرا نزع الفلسفة من المناهج التعليمية؟ وهل كان خطأ أكبر تغييب الفنون والموسيقى والتذوق الجمالي للنصوص والأصوات والصور وفهمها وقراءتها؟ الكارثة أكبر بكثير من الفوضى والهدر، فالمعاني والأفكار تحل في الكلمات والأصوات والصور وعندما نعجز عن إحلالها أو استخراجها من أوعيتها فإنما نتجه إلى التيه في الوجود والمسار والتنمية والانتخابات والطعام واللباس والسكن، نحتاج أن نعلم أنفسنا شيئا بسيطا نفتقده لكنه أساسي، ويؤدي غيابه إلى ضياع كبير وربما التلاشي.

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  ابراهيم غرايبة   جريدة الغد