شهدنا قبل أسابيع قليلة حدثا فلكيا نادرا يتكرر مرة واحدة كل ألف عام، عندما اختفت الزهرة وراء القمر، ثم بدأت تظهر ملتصقة به، وكانا (وهي تبتعد عنه بالتدريج) يشكلان ثنائيا حميما وجميلا، وكانت مراقبة المشهد متاحة من أي مكان فقد كانا مرتفعين في السماء ما يمنح معاني ومتعاً ودهشة ربما لا تنقضي.
الهلال والنجمة مقترنان أو منفردان شعار إسلامي، يزين أعلام كثير من الدول العربية والإسلامية، مثل الأردن وتركيا وباكستان والجزائر وتونس وماليزيا وبروناي، ولكن القمر والزهرة يرمزان إلى معان وطقوس قديمة جدا، فالقمر يرمز إلى الحياة بمراحلها وتشكلها، والزهرة ترمز إلى الجمال والعطاء، فهل يعني شعار الهلال والنجمة الحياة الجميلة أو الأفضل؟
وبدأ الهلال يتخذ بعدا إسلاميا كرمز أو شعار في عهد الدولة العثمانية، والواقع أنه شعار قديم جدا لمدينة القسطنطينية/ اسطنبول، وظل معتمدا لها في العصور الإسلامية، ومرده إلى أسطورة تقول إن الهلال أنقذ المدينة من الغزو المقدوني، فاتخذه الأباطرة شعارا. وواصل الأتراك العثمانيون استخدامه، لكنه تحول إلى شعار إسلامي، وقد استخدمته دول عربية وإسلامية باعتباره شعارا إسلاميا، ويستخدمه اليوم المسلمون في أوروبا وأميركا شعارا لفنونهم وأعمالهم، ويكاد يكون الهلال اليوم رمزا عالميا يشير إلى الإسلام.
ونسي الأوروبيون أن الهلال رمز قديم مستمد من أساطيرهم ومعتقداتهم يتفاءلون ويحتمون به وتحول لديهم إلى رمز للعدو، وصنعت كعكة "الكروسوان" المشهورة اليوم والتي تعد في جميع أنحاء العالم عام 1683 رمزا للانتصار على الدولة التركية العثمانية عندما فشل الحصار على فينا، وانسحب الجيش التركي متكبدا الهزيمة الأولى في تاريخه بعد أربعمائة سنة من الانتصارات المتواصلة انسلخ في أثنائها الأتراك من قلب آسيا نحو الغرب ليستوطنوا ما صار يعرف اليوم باسم تركيا، والتي كانت تشكل ما تبقى من الدولة البيزنطية، التي ظلت على مدى ألف سنة تتقلص وتتآكل أمام الزحف الإسلامي بعد أكثر من ستمائة سنة من الانتصارات والهيمنة المتواصلة لتسقط نهائيا عام 1453، عندما سقطت القسطنطينية(استمبول فيما بعد) بيد الجيوش التركية بقيادة محمد الفاتح، وكانت قبل ذلك بسبعمائة سنة قد استطاعت البقاء في وجه الحصار الإسلامي الأموي وأن تصد حملتين عسكريتين كبيرتين للمسلمين.
وبالطبع فإن ثمة معاني وأعمالا وعبادات إسلامية مرتبطة بالهلال، لتحديد أول الشهر لأجل الوقت والصيام والحج، "يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج" وثمة علاقة بين العبادات وبين الكون والفلك في الإسلام، الصلاة مرتبطة بحركة الشمس، والصيام والحج والأعياد أيضا، وربما يكون موضوع العلاقة هو الحياة نفسها، فالحياة في جوهرها هي الزمن الذي يستدل عليه بالكون وحركة الكواكب والنجوم، وربما يكون بالفعل هو حركة الكون والنجوم.
والزهرة التي ترمز إلى فينوس "آلهة الجمال" عند اليونانيين هي نفسها عشتار لدى البابليين والسومريين والآراميين واللات والعزى عند العرب، وبالطبع فقد أوقف الإسلام عبادة النجوم والكواكب، ولكن الزهرة ظلت "نجمة الصبح" رمزا جميلا، وإن فقد قداسته، يلهم كثيرا من الأفكار والمعاني ليس أقلها الانسجام مع الكون، لأن الإنسان جزء من هذا الكون ويحتاج أن يجعل إيقاع حياته في سياقه حتى لا يفلت منه أو يتحول إلى شهاب تائه أو متمرد يختفي فجأة محترقا في مدار كوكب آخر، وأن يبحث للأبد عن الجمال الذي يميز القبح من الحسن في الحياة والأفكار والأعمال والوجود، وذلك هو سر التقدم المتواصل الذي يتحول بمجرد إنجازه إلى منتج متراكم يخضع مرة أخرى للبحث عن الأفضل والأجمل، هذه النظرة الدائمة إلى السماء يجب أن تعلم البحث المتواصل عن الأجمل في كل شيء.
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة ابراهيم غرايبة جريدة الغد