يقدر عدد الذين يعملون من منازلهم في الولايات المتحدة الأميركية بحوالي ثلاثين مليون شخص، من بينهم 24 مليونا يعملون لأنفسهم، والباقون يعملون لدى مؤسسات أخرى، وتتزايد الظاهرة لتشمل في السنوات القليلة القادمة أكثرية العمل والعاملين، وأما عدد الذين يقومون بأعمال إضافية أو جزئية من منازلهم فهو كبير جدا يصعب تقديره، ولكنه يشكل نسبة قد تمثل أكثرية القوى العاملة في العالم، وقد بدأ العمل من المنزل تتسع آفاقه وفرصه، ليشمل أعمالا ومهنا كان يصعب أداؤها من المنزل، فقد أنشأت الإنترنت وشبكة الاتصالات عالما من الأعمال والمهن وفرص العمل من المنزل جعلت هذه الظاهرة واحدة من أهم التحولات الاجتماعية والاقتصادية والمهنية والتي تغير في طبيعة الأعمال والموارد وإدارتها بل وفي شبكة العلاقات الاجتماعية وأنماط الحياة والثقافة.
وبالطبع فإن العمل من المنزل كان هو القاعدة الأصلية في التاريخ الاجتماعي والاقتصادي البشري، فقد كان معظم الناس يعملون من وفي منازلهم أو قريبا منها، مثل أعمال النجارة والحدادة والصيانة والحرف المختلفة من النسيج والخياطة والصناعات الخفيفة، وقد بدأت صناعة الساعات السويسرية الشهيرة في المنازل، وكانت المصانع والمؤسسات اليابانية والصينية وماتزال تعد ترتيبات وعقودا لإعداد وتصنيع كثير من اللوازم والمنتجات مع النساء والأسر والقرى في الريف والضواحي المحيطة بالمصانع والمدن.
ولكن المعلوماتية قدمت عالما جديدا من العمل من المنزل لأهداف تجاوز الجغرافيا والمسافات البعيدة، فيمكن إنجاز مجموعة كبيرة ومعقدة من الأعمال مثل التصميم والترجمة والتحرير والاستشارات والبرمجة والمحاسبة والصيانة والتسويق والوساطات التجارية والتعليم عن بعد والاستعانة بالخبرات النادرة أو العادية في جميع أنحاء العالم، ويمكن أيضا بذلك تقليل تكاليف المكاتب وتشغيلها، ولم يعد ثمة حاجة لإنشاء مكاتب كبيرة في المدن، فيمكن أن تكون في الضواحي والأرياف، ولا يعود ثمة حاجة للسفر أو الإقامة في المدن أو قريبا من العمل، ولنتخيل تداعيات ذلك على اتجاهات العمل والحياة.
فعندما يمكن العمل من أي مكان يمكن أيضا الإقامة في أي مكان، وسيجعل ذلك من الريف والمناطق البعيدة أماكن تصلح للإقامة والحياة لكثير من أصحاب الأعمال والمهن، ويمكنهم بذلك القيام بأعمال أخرى مثل الزراعة وممارسة وتسويق الهوايات، ويمكنهم أيضا البقاء لفترة أطول مع عائلاتهم وأقاربهم وفي بلدانهم الأصلية لتنشأ بذلك شبكات جديدة من العلاقات الاجتماعية والحياة الأسرية، وربما ينشئ ذلك اتجاهات جديدة في التمدن والتحضر، فتزدهر المدن الصغيرة، وتخف الوطأة على المدن والمراكز الكبرى وتقل الهجرة إليها، ويقل الضغط على النقل والطرق والبنى التحتية، ويمكن السيطرة على البيئة والتلوث والطاقة وإدارة الموارد على نحو جديد.
وقد كانت الدوافع الأساسية لتطوير العمل من المنزل قبل تطور شبكات الاتصال والمعلوماتية لمواجهة الزحام والتلوث والهجرة ومشكلات النقل والطاقة، ولكنها تجاوزت ذلك منذ منتصف التسعينيات عندما بدأت شبكات الإنترنت والاتصالات تشكل جزءا شائعا وقليل التكلفة من حياة الناس وأعمالهم.
وبتحول المنزل إلى مكان عمل فإن تصميمه سيتغير تبعا لدوره ليكون ملائما للعمل، فيتجه إلى الانكفاء والاتساع ليحقق الخصوصية والهدوء والقدرة على العمل، وإذا تحول التعليم أيضا إلى الشبكية فإن المنزل سيكون هو القاعدة الأساسية لتعليم الأولاد، وهناك حوالي ثلاثة ملايين طفل في الولايات المتحدة يتلقون التعليم المدرسي المنتظم من البيوت من خلال الأسرة، وقد يتحول التعليم الأسري في موجة الخصخصة وتراجع مستوى التعليم وانتشار وتقدم التعليم لدى الآباء وبخاصة في المرحلة الأساسية ليكون هو الأصل والأكثر انتشارا، وسيغير ذلك بالتأكيد على نحو جذري من دور المدارس والمعلمين والأحياء السكنية والبلديات والأسر والجيران لتنشأ شبكة مجتمعية وأهلية بديلة توفر للأطفال فرص التعليم المنهجي المنتظم والعلاقات والصداقة وممارسة النشاطات.
وبما أن المجتمعات تنشأ حول الأعمال فإن العمل من المنزل سينشئ مجتمعات وثقافات جديدة ومختلفة.

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  ابراهيم غرايبة   جريدة الغد